Ad

إن المعاهدة العراقية-الأميركية المنتظرة رغم ما يقال عنها تبريراً لإبرامها كأمر واقع، وأنها أفضل من قرارات مجلس الأمن، فإنها تظهر قدراً من إملاء الإرادة التي تشوبها عيوب الرضا لاسيما عنصر الإكراه، ناهيكم عن أنها تُعقد بين طرفين غير متكافئين.

من المؤمل أن ينتهي مفعول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1546 الصادر في 8 يونيو 2004 في نهاية العام 2008، وقد أعلن الطرفان الأميركي والعراقي عدم رغبتهما بتجديده، وكانت الحكومات العراقية السابقة ما بعد الاحتلال قد طلبت من مجلس الأمن الدولي تجديده لعدة مرات. وفي الوقت نفسه أبدت الإدارة الأميركية والحكومة العراقية رغبتهما في استبدال القرار الأممي والقرارات الدولية الأخرى الصادرة عن مجلس الأمن بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس 1990 والتي فرضت حصاراً وعقوبات على العراق، بمعاهدة استراتيجية بين واشنطن وبغداد.

وكان إعلان المبادئ بين الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي قد تم توقيعه من خلال مباحثات تلفزيونية مغلقة على أمل أن تبدأ جولة المفاوضات حول المعاهدة الثنائية في يوليو القادم، علماً بأن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1770 كان قد صدر في 10 أغسطس 2007 ودعا إلى توسيع دور الأمم المتحدة في العراق.

من التبريرات التي تتعكز عليها الولايات المتحدة والحكومة العراقية، أن المعاهدة ستمنح العراق فرصته للتخلص من سيف الفصل السابع الخاص بالعقوبات، التي ظل العراق أسيراً لها طيلة 13 عاماً واستمرت العقوبات مدة 5 أعوام أخرى ما بعد الاحتلال. وأن المعاهدة ستنقل العلاقات السياسية الأميركية- العراقية إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي، وهي مرحلة أرقى من وجود القوات المتعددة الجنسيات، وهذا يعني استعادة العراق سيادته التي ظلّت منقوصة حتى بصدور القرار 1546 عام 2004 الذي اعتبر وبصخب شديد وتبريرات واهية، أنه استعادها قانونياً وإن ظلّت مكبّلة فعلياً!

وإذا كان توقيع المعاهدة العراقية-الأميركية مصدر جدل سياسي عراقي سيتسع من داخل قبة البرلمان والمشاركين في العملية السياسية ومن خارجها بمن فيهم الأطراف الممانعة أو الرافضة للعملية السياسية أو المقاومة للاحتلال، فإنه أثار جدلاً قانونياً أميركياً بدأ ولم ينقطع، بل إنه سيتعاظم ما أن يتم الحديث عن إبرام المعاهدة واعتماد التفويض السابق من جانب الكونغرس.

في 8 أبريل 2008 نشرت صحيفة الغارديان البريطانية شيئاً عن مضمون المعاهدة بحديثها عن مسودة اتفاق ليحل محل التفويض الحالي للقوات المتعددة الجنسيات، وذلك بالسماح للقوات الأميركية «القيام بعمليات عسكرية في العراق واحتجاز الأفراد كلما اقتضت الحاجة لأسباب تتعلق بالأمن» من دون تحديد مدة زمنية، كما أنها لم توّضح الأسباب ولم تبيّن المهمات التي يمكنها القيام بها، ولعلها بذلك تقصد الجانب العسكري من المعاهدة.

وحتى الآن لم تترشح معلومات كافية عن المعاهدة التي ظلّت سرية، رغم إثارتها جدلاً قانونياً أميركياً حول موضوع استمرار أو عدم استمرار التفويض القانوني بخصوص «شرعية» وجود القوات الأميركية في العراق، ناهيكم عن حركتها وانتشارها وعملياتها الحربية، خصوصاً أن إدارة بوش وهي تشارف على تسليم مقاليد الأمور إلى إدارة جديدة في مطلع العام القادم لا تريد تقديم المعاهدة إلى الكونغرس حسب القواعد الدستورية، الذي هو من يفوض استمرار وجود القوات الأميركية في العراق بحيث لا يمكن لأي رئيس قادم جمهوري (ماكين) أو ديمقراطي (هيلاري كلينتون أو أوباما) أن يتجاهل قرار التفويض السابق المحدد والصادر عام 2002، إذ سيكون «ملزماً» إلى حدود غير قليلة للسير على نفس النهج (الرئيس الجمهوري) أو عدم القدرة على استبداله بسهولة (الرئيس الديمقراطي).

من جهة أخرى لا تستطيع الحكومة العراقية وليس لديها أي خيارات أخرى ضمن الأوضاع السائدة إلاّ الرضوخ للابتزاز الأميركي، خصوصاً أنها رغم مرور خمس سنوات لاتزال تفتقد إلى مصالحة وطنية حقيقية، ومازال العنف الطائفي مستشرياً وظاهرة الميليشيات مستمرة ونهب المال العام قائم على قدم وساق والمحاصصة المذهبية-الإثنية هي الموجّهة لنشاط الحكم، والدستور معطلاً، خصوصاً أن التعديلات التي تم الاتفاق على إنجازها خلال أربعة أشهر بعد تولي نوري المالكي رئاسة الوزراء لم تتحقق، وتزداد تداعيات العملية السياسية تفككاً لاسيما في ما يتعلق بقانون الأقاليم ومشكلة كركوك وقانون النفط والغاز، ناهيكم عن تبعات معارك البصرة والناصرية ومدينة الثورة (الصدر لاحقاً) في بغداد ومناطق أخرى.

وقد أعلنت وزارة الخارجية العراقية أن المعاهدة الاستراتيجية تتضمن ثلاث اتفاقيات: الأولى عسكرية تتناول تفاصيل وجود القوات الأميركية، والثانية اقتصادية لها علاقة بالامتيازات الممنوحة إلى الشركات والاستثمارات الأميركية لاسيما أن ما أعلنته الإدارة الأميركية لم يتحقق لحد الآن ونعني به «إدماج الاقتصاد العراقي في منظومة السوق الحر» وكذلك إمرار قانون النفط والغاز، والثالثة سياسية وتشمل تنسيق المواقف والجهود الدبلوماسية بين البلدين.

هكذا وضعت الولايات المتحدة رغم حراجة موقفها، خصوصاً ازدياد خسائرها البشرية والمادية، الكرة في الملعب العراقي، لأنها لا تفكّر في إعلان الانسحاب وتحديد جدول زمني لذلك، ففي ذلك فشل لسياستها الكونية واستراتيجيتها في الحرب على الإرهاب وتراجع لخططها بشأن الدمقرطة والإصلاح، خصوصاً بعد بطلان مزاعمها وانكشاف خداعها بشأن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وعلاقة الحكومة العراقية السابقة بالإرهاب الدولي، ناهيكم عن أن الديمقراطية المزعومة والحرية الموعودة تحوّلت إلى كوابيس أثارت الرعب في العراق وفي جيرانه، لاسيما ما حصل من تفتيت وتقسيم فعلي وحروب محلية طائفية ومذهبية.

إن الولايات المتحدة هي المسؤولة الأولى عما حصل في العراق، وحتى شراكتها مع الحكومة العراقية، فهي شراكة تابع بمتبوع وإن كان هذا الأخير يتحمل مسؤوليته بقدر مشاركته، وما الابتزاز بالتوقيع على معاهدة جديدة تعتبر الولايات المتحدة صديقة وحليفة بعد عدم تجديد قرار مجلس الأمن وإعفائها من المسؤولية، سوى ضرب من ضروب الالتفاف على القانون الدولي.

وقد مارست بريطانيا في العشرينات مثل هذا الابتزاز يوم فرضت على العراق توقيع معاهدة في أغسطس 1922، حيث خاطب المندوب السامي العراقيين عشية عقد المعاهدة «أنه وحتى وإلى أن تعقد المعاهدة، فإن حكومة العراق والمندوب السامي مشتركان في المسؤولية معاً أمام حكومة صاحبة الجلالة البريطانية» وإذا كان هذا حديث المندوب السامي قبل ثمانين عاماً ونيف فإن ما يقوله السفير الأميركي في العراق رايان كروكر لا يقل عن ذلك لاسيما بتعنيفه المستمر للحكومة العراقية وتأكيد فشل سياساتها الأمنية والخدمية والاقتصادية والسياسية بما فيها المصالحة الوطنية.

إن المعاهدة العراقية-الأميركية المنتظرة رغم ما يقال عنها تبريراً لإبرامها كأمر واقع Status Quo وأنها أفضل من قرارات مجلس الأمن، فإنها تظهر قدراً من إملاء الإرادة التي تشوبها عيوب الرضا لاسيما عنصر الإكراه، ناهيكم عن أنها تُعقد بين طرفين غير متكافئين، وبالتالي لا يمكن اعتبارها تستند إلى حقوق متساوية ومركز قانوني متكافئ وهو ما يوصف بلغة السياسة بالمعاهدات المذلة والمجحفة ولعلها تلحق ضرراً بالعراق ومستقبله لاسيما أنها معاهدة طويلة الأمد.

* مفكر وباحث عربي