من الأمور التي ترد على خاطري دوماً، ذلك الحديث السريع والخافت الذي أدرته ذات مرة مع بعض أساتذتي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، عن نفور القراء والمقبلين على المعرفة من مصطلحات الأكاديميين ولغتهم التي ينسجون منها عبارات جافة بلا روح، أو مستغلقة على الأفهام. تساءلت يومها تساؤل تلميذ يريد أن يعرف لا أن يفرض رأياً أو توجهاً، أو يبدي تبرماً من مسلك ما في طرح الأفكار وتناول المعارف الإنسانية، وكان الرد موجزاً وقاطعاً من أغلبهم ودار جُلّه حول ضرورة أن تكون لدينا لغة للبحث الأكاديمي، تختلف عن الكتابات الأخرى التي تفتقد التحديد والصرامة التي يوجبهما العلم، ويجود بها علينا الكتاب الصحافيون والأدباء ومن لف لفهم، حيث تختلط لدى الأغلبية منهم المفاهيم والمعاني وترتبك إلى أقصى حد، وأبعد مدى، وتقع أحياناً خارج التفكير العلمي، الذي له شروط يتعارف عليها العلماء في مشارق الأرض ومغاربها.

Ad

واستقبلت هذا الرأي باحترام يتناسب مع تقديري لمن أدلوا به، لكن ظل في نفسي شيء من عدم الارتياح له، راح ينمو بمرور الأيام وتوالي القراءات، حيث وجدت أن كثيراً من الكتب التي أحدثت نقلة في حياة البشر، ونهضة في تاريخ الإنسانية، وتركت علامات قوية لا يمحوها الزمن، وظلت حية يتم تداولها رغم تقدم الزمان وتبدل الأمكنة، كانت مكتوبة بلغة فياضة، تشد النفس، وتوقظ المشاعر، في الوقت الذي تحفر في العقل معاني ومفاهيم وقيماً عميقة. وكلما أوغلت راحلاً في صفحات هذه الكتب، ثار داخلي سؤال آخر حول جدوى أن تكون العلوم الإنسانية بلا إنسانية. أي لا تتعامل مع الإنسان بوصفه روحاً ومادة يزاوج بين العقل والمشاعر، ويحمل بين جنبيه إرادة الاختيار وملكة التذوق.

وراح هذا التصور يكبر في نفسي رويداً رويداً حتى استقر في يقيني وبات اقتناعاً راسخاً، لا يحلق في فراغ، إنما ينبني على معايير عدة قابلة للزيادة، سواء لدي أم لدى كل من يميل إلى هذا الرأي؛ أولاها، أن طبيعة الأمور واستقامتها تفرض على الجامعات في كل مكان أن تشتبك مع قضايا المجتمع، ليس لتحقيق ما على عاتقها من دور تنموي فحسب، بل لتعزيز قدراتها العلمية بتجديد مناهجها ونظرياتها، أيضاً، فالنظريات الكبرى في العلوم الإنسانية انبثقت من الإمعان والتدقيق في سلوكيات البشر وحركاتهم وتصرفاتهم وأشواقهم وأحلامهم التي يزخر بها الواقع المعيش. وثانيها، أن الظواهر الإنسانية متشابكة إلى أقصى حد، ولا يمكن الوقوف عليها وقوفاً صحيحاً إلا إذا تم تحليلها إلى عناصرها الأولية، أو تفكيكها إلى ما تنطوي عليه من مكونات سواء أساسية أو ثانوية. ومن بين هذه العناصر والمكونات ما يتعلق بالجانب الروحي، الذي يفيض بالمعتقدات والمشاعر والإيمان بالرموز، وهذا الشق الإنساني لا يمكن التعبير عنه بلغة جافة تفتقد الحس وتفتقر إلى البساطة والوضوح.

أما ثالثها، فإن القارئ يتفاعل مع أي «نص» أو «مكتوب» ويفهمه ليس كما يريد صاحبه بالضبط، بل أيضا حسب ما تجود به ثقافة هذا القارئ وميوله وخلفيته التعليمية والطبقية والدينية، بحيث ينتج هو نصه الخاص على هامش النص الأصلي. وهذا يجعل لدينا في نهاية المطاف نصوصاً أو أشباهها بعدد مَن قرأوا ما هو مكتوب، وبالتالي فإن الحديث عن صرامة لغوية في البحوث والدراسات الإنسانية أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فمهما كانت هناك تدابير يتبعها الباحثون كي تخرج العبارات دقيقة لتصف الحالة أو الظاهر كما ينبغي لها، فإن هذا لن يمنع القارئ من تلقي هذا الوصف بالطريقة التي تحلو له، ويتسع هذا التلقي وتزيد مساحة التأويل والتفسير والتخمين والتكهن كلما كان النص معقداً وجافاً.

والرابع، هو أن التعقيد لا يعني بالضرورة الضبط العلمي، كما أن سهولة العرض لا تعني في الوقت ذاته الخروج عن مسار العلم ومقتضياته. كل ما في الأمر أن الباحث مطالب بألا يستعمل لغة عامة «حمالة أوجه» أو عبارات إنشائية غارقة في البلاغة إلى الدرجة التي تلفت فيه الانتباه لذاتها، وتصبح الكتابة لديه مجرد تشكيل جمالي للغة، لأن هذه هي مهمة الأدب وفنونه عموماً وليس العلم. وما هو مطلوب هنا أن تكون اللغة جليّة ورشيقة ومنضبطة في آن، بحيث تعبر عن صميم الظاهرة، وترسم ملامحها بدقة، لكنها لا تنفر القارئ منها، ولا تجعله يشعر أن الباحث والدارس قد كتب ما كتبه لنفسه أو حفنة صغيرة من زملائه الأكاديميين داخل أسوار المعاهد والجامعات.

ونكمل هذه المعايير في المقال القادم إن شاء الله.

* كاتب وباحث مصري