سيأتي علينا يوم، نقطع فيه الأرجل والأيدي كلما أصاب جرح إحداها، وسيأتي علينا يوم، نحرق فيه السيارات كلما ظهر عطل كهربائي أو ميكانيكي فيها، وسيأتي علينا يوم، نهدم فيه البيوت كلما أصاب أحد جدرانها شرخ بسيط!
سياسة البتر والإلغاء أصبحت تسري في دمائنا، وتسكن أرواحنا، و«تعشعش» في خلايا أدمغتنا، ألم يطالب بعضهم قبل مدة بسيطة بحجب موقع الـ«يوتيوب»، لمجرد أن مقطعا مسيئا للإسلام، من ضمن ملايين المقاطع المفيدة، قد ظهر على ذلك الموقع؟ ألم نطالب قبل ذلك، بمقاطعة شعب الدنمارك بأكمله لأن رساما سخيفا، في مجلة لم يسمع بها أحد، قد تجرأ فرسم رسومه الوقحة والمسيئة للرسول الكريم؟!الآن، يحاول بعضهم، ولحاجة في نفس يعقوب، تطبيق سياسة البتر والإلغاء على الحياة الديمقراطية بأسرها، عبر المطالبة بحل مجلس الأمة وإيقاف العمل بالدستور لمدة غير معلومة، لمجرد أن هناك أخطاء ومفاسد (نعترف بها جميعا) في الممارسة النيابية، وبحجة أن السادة النواب قد أصبحوا يتجاوزون الحدود ويتعسفون في استخدام صلاحياتهم التي كفلها لهم الدستور، أو لأن بعضهم قد دخل دائرة الفساد الذي انتشر في الآونة الأخيرة، في كل ركن من أركان البلد، مع أن هذا الأمور موجودة وتحدث في برلمانات العالم كلها بلا استثناء، وإن كانت بدرجات متفاوتة.«ما هكذا تورد الإبل»، ولا هكذا تعالج الأوضاع المتردية، ومن المستحيل أن يأتي الإصلاح المنشود أبدا، بمطالبات حمقاء سخيفة كهذه! هل يتوقع المطالبون بتعليق الحياة النيابية، أن يصبح الأداء الحكومي أفضل وأكثر إنتاجية بغياب مجلس الأمة؟! وهل ما وصلنا إليه من فشل وتقهقر وتخلف على الصعد كافة، سببه الممارسة الديمقراطية والعمل بالدستور؟! وهل يظنون أن مشاكل الوطن والمواطنين ستنتهي تلقائيا، بمجرد أن يتم حل المجلس حلا غير دستوري ولأجل غير مسمى؟!إما أن يكون هؤلاء واهمين ساذجين بسطاء، لا يستخدمون عقولهم، ولا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم، وإما أنهم دهاة متربصون متمصلحون، لا يبالون بالديمقراطية ولا يؤمنون بها، وكل ما يعنيهم ويهمهم هو مصالحهم الخاصة، في أي اتجاه ومع من تكون، وليذهب بعد ذلك كل أمر آخر إلى الجحيم! رغم مساوئ المجلس الحالي، وفساد بعض نوابه، وتذمر الناس من تعسفهم وسوء فهمهم لنصوص وروح الدستور، بل «صبيانية» بعضهم أحيانا، فإن حله لن يحظى بالتأييد الشعبي، فالناس قد ملوا من الانتخابات وصداعها و«دوشتها»، وصاروا على قناعة تامة، من أن إعادة الانتخابات لن يحدث فارقا في الأمر، وكل النواب الذين تريد الحكومة التخلص منهم، وتتهمهم بالتأزيم، سيعودون إلى المجلس من جديد وبأرقام قياسية. أما التخوف الأكبر عند المواطنين البسطاء فهو في الحل غير الدستوري، لأنهم يدركون جيدا، أن ذلك سيجعلهم تحت رحمة حكومة لا تعرف كيف تدير الأمور، ولا تملك روح المبادرة في حل المشاكل اليومية التي يعانونها، بل تظل تتفرج عليها من بعيد وهي تكبر وتنتفخ أمام أعينها، وكأن الأمر لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد، ولو خُيِّر الناس بين الحكومة والمجلس، لاختاروا أن ترحل الحكومة ويبقى المجلس!كلنا أمل في حكمة وحنكة صاحب السمو بأن يجد مخرجا لهذه الفوضى السياسية العارمة، بعيدا عن مطالبات بعضهم بوأد الدستور والقضاء على الحياة الديمقراطية التي جبلنا عليها، واعتدنا على ممارستها، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من كياننا كوطن ومواطنين.
مقالات
الدستور... قبل المجلس والحكومة
25-11-2008