أخطأتَ الموعد هذه المرة... كان يفترض أن أرافقك صباح ذلك اليوم إلى الطبيب. كيف تغافلني وتغيّر وجهتنا إلى حيث أودعك التراب. أعرف أنك تعرف... كلانا كان يعلم أنك كنت تخوض موتك البطيء منذ سنوات، وأنهم تركوك تستعجله، وأننا لم نفعل كفاية لتأجيله.

Ad

عشية الإفراج عنك في مثل هذه الأيام منذ أعوام خمسة، كنا متلهفين للقائك، المعتقل السياسي، المناضل، الفارس، فارس مراد، الذي أمضى تسعة وعشرين عاما متنقلا من سجن إلى آخر؛ ابتلع السجن بمآسيه كعملاق من الحكايات السحرية؛ هزم أصفاده وكبلها بحبه للحياة، وتخفف من أوجاع جسده المريض بالحرية التي يحملها في داخله. انتصر فارس، انهزم السجان... هراء.

الآن وقد عشتُ رحيلك قاسيا وأليما، أدرك ألا منتصرين في وطني، جميعنا غارقون في الهزيمة نختنق بها بشكل بطيء، تماما كما كان موتك.

سجانوك بالتأكيد لم ينتصروا؛ إلا إن كان القبض على قلب مريض يعدُّ انتصارا، وإلا إن كان أخذ جسدك المتعب رهينة، بمنعك من السفر لتلقي العلاج الذي كان يمكن أن ينقذك، يعدُّ انتصارا، فعندما تكون المعركة غير متكافئة إلى هذه الدرجة، يغدو الحديث عن الانتصار والهزيمة هزلاً.

تُرى، ماذا باعتقادك كانوا يريدون حين سألوا عنك قبل أيام من رحيلك؟ لم يتسع لهم الوقت للقائك. حين أبلغتني أنهم ينوون زيارتك، كان صوتك غائرا كأنه آت من عالم آخر. أعرف وأنت تعرف، أنه ليس الخوف، وكلانا يعلم سبب ضيقك يومها؛ فما الذي قد يرغبون في سؤالك عنه، وأنت لم تكد تغادر منزلك... أيكون فضولهم عن وقت رحيلك؟

وأنت كيف تكون انتصرت موتا؟! وقبل ذلك أوجاع جسد ووحدة وفاقة عيش، أعرف وأنت تعرف، أن القبو الرطب الذي اضطررت للانتقال إليه منذ أشهر، وكنت تعده قصراً، تسبب في تردي وضعك الصحي، وأنك في ليال كثيرة هذا الشتاء لم تتوافر على لتر وقود لمدفئتك، وأنك كنت تكابر وتناور وتضطرني لاستدراجك في الحديث كي أعرف تلك التفاصيل وغيرها.

كنت مخطئاً جداً كلما اعتبرت أنك عبء على من حولك. أنت فقط لم يتسع لك البلد، لأنه معتل بضيقه... لم يتسع لعنادك ودفق الحياة في داخلك، ولا لأحلامك في الحرية والاشتراكية وعدائك «للإمبريالية والاستبداد جنبا إلى جنب»، ولا لماركسيتك «المعدلة» التي كنت أحاول استفزازك دوما بوصفها «منتهية الصلاحية»! لم تكن لتستفز، ولم يكن لأي شيء أو وصف أن يعكر هدوءك وطيبتك.

كم كنت أُثقل عليك بأسئلتي، وكم أحببت أن تروي لي تلك القصص مرات ومرات وأنا أُراكِمُ التفاصيل التي تختلف من رواية لأخرى حين تخونك الذاكرة؛ كيف كانت حياتك خلال الخمسة وعشرين عاما التي قضيتها قبل الاعتقال يا فارس، كيف أمضيت آخر لحظات الاعتقال، كيف استقبلت حياة الحرية يا فارس؟ «ثلاثون سنة من العزلة جعلتني أتخوف من لحظة الحرية... كيف أستطيع أن أخرج إلى الحياة والناس سبقوني ثلاثين سنة كاملة بكل شيء... كم يلزمني كي ألحق بهم» أجبت.

حين واجهتَ تلك اللحظة لم تهرول لتعويض ما فاتك ولا توقف الزمن لديك. مضيت وكأنك عدت إلى منزلك عشية عيد الفطر ذاك، من جولة تسوق، لا من سجن صيدنايا، الأخير في سلسلة ما زرت من سجون.

حين سألتك في حوارنا منذ سنوات ثلاث عن خسارتك لسنوات مديدة من حياتك في المعتقل، أصررت أنك لم تخسر شيئا. «أنا قدمت جزءا من عمري للوطن ولم أضيعه»، قلت. من يومها وأنا أحاول أن أفهم أسرار القرابين وتعويذاتها.

لم أفهم أبدا، سر تلك السكينة في قلبك، ولم أفهم أبدا، كيف أبقيت على شغف الحياة لديك، ومن أين كانت تلك المحبة كلها ترتعش في عينيك لتظلل قائمة طويلة وغير منتهية من الأحبة والأصدقاء.

هكذا كنت أحبك، كإنسان لا يتوقف عن إدهاشي بجمال روحه، وألوم من عرفك ولم يحبك بهذا القدر لأنه لم يعرفك حتما.

أراك تقول لي، وبعد ذلك كله كيف أكون مهزوما... وأراني أوافقك الرأي جدا... من أحب الحياة بذاك الشغف وتلك الحرية، لا يرتدي زي محارب مهووس بالمعركة.

أنا فقط أشعر بالسخط لأن الحياة لا تقدر دائما من يتقن عيشها، ولأن الأحلام عنيدة وعصية على التحقق في معظم الأحيان، ولأن الظلمة كثيفة إذا ما قورنت بنقاط الضوء هنا وهناك.

ولأنهم كتبوا على شاهدة قبرك، فارس مراد: تموز 1950 آذار 2009، وأهملوا ذكر كانون الثاني 2004، تاريخ الإفراج عنك، عيد ميلادك الحقيقي كما كنت تقول دائما.

أشعر بالسخط، لأنه لم يتح لك أن تعيش خارج المعتقل لأكثر مما عشت داخله؛ أيّ عبثٍ تثيره شهوة الحرية تلك، حين تتساوى سنين حياتك نصفاً في السجن ونصفاً خارجه. لكن... شكراً لك، فسوف نحيا مع نصف الحياة الذي انتصر عندك.

* كاتبة سورية