ترشح الشائعات، وهذا هو موسمها في واشنطن، رام إيمانويل، عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، للعب دور بارز في خطة الرئيس المنتخب أوباما في إيصال العرب وإسرائيل إلى طاولة التفاهم التي تعلق الإدارة الجديدة آمالاً واسعة على إمكان تحقيقها، خصوصا في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً حيث تركها الرئيس بوش عارية حتى من ورقة التين، أو كما قال كاتب أميركي في «لوس أنجليس تايمز» ما معناه: أن بوش يبدو أنه مصر على عدم ترك البيت الأبيض وفيه حجر على حجر... سياسياً».

Ad

إيمانويل اليهودي- والنصف صهيوني- هو ابن طبيب أطفال ولد في القدس. وكان أبوه عضواً بارزاً في عصابة الأرغون المتطرفة التي ارتكبت الكثير من المجازر ضد سكان القرى في فلسطين المحتلة في عام 1948 بغية إخراج مليون ونصف من اللاجئين ثم صادرت أملاكهم وأراضيهم الزراعية حيث بنيت عليها «الكيبوتسيات» ثم حولتها إلى مستعمرات دائمة. وللدلالة على أهمية إيمانويل بالنسبة لأوباما فقد كان الأول في تعيينه في الإدارة الجديدة كمدير لشؤون موظفي البيت الأبيض الذي- عادة- ما يمسك بأطراف الحبال كلها يضاف إلى ذلك في حالة إيمانويل أنه يقف على مسافة قريبة جداً من أذني أوباما الاثنتين.

كان لإيمانويل طموح آخر فقد كان يسعى إلى منصب رئيس مجلس النواب، وكان باستطاعته أن يحقق طموحه بعد الانتصار الضخم الذي حققه الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ والنواب، لكنه ضحى بهذا المنصب ليكون قريباً من أوباما. وقد استغربت عائلة إيمانويل هذه التضحية وحاولت أن تثنيه عن قبول منصب البيت الأبيض، الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. وفي تصريح التعيين قال أوباما: لقد أعلنت هذا التعيين لأن هذا المركز رئيسي ومهم في تنفيذ برنامج (أجندة)، وليس هناك أفضل من إيمانويل لتنفيذ ما عليه تنفيذه. ولقد توقف المراقبون طويلاً حول تعبير تنفيذ «أجندة» الذي استخدمه أوباما، فأي «أجندة» تنتظر إيمانويل بالإضافة إلى إدارة موظفي البيت الأبيض؟

عودة إلى خلفيات إيمانويل وعلاقته بأوباما وقبل ذلك بالرئيس السابق كلينتون قد تلقي الضوء على هذا التعيين. فإيمانويل معروف أنه يضع مصلحة الولايات المتحدة فوق أي مصلحة. ففي عام 1998، وخلال محادثات «واي بلانتشين» حيث دارت مناقشات حادة بين كلينتون ونتنياهو الذي كان يرأس الوفد الإسرائيلي، اكتشف نتنياهو أن إيمانويل «خائن لدينه وللقضية اليهودية». وقد عبر عن ذلك صراحة في وجه كلينتون وإيمانويل ثم أصدر أوامره للوفد الإسرائيلي بألا يتحدثوا بأي شيء مهم أمام إيمانويل لأنه- أي إيمانويل- مخلص لرئيسه أكثر من إخلاصه للقضية الصهيونية. وإيمانويل يتحدث طبعاً بطلاقة اللغة العبرية. وأكثر من ذلك فهو عنيف في الموقف الذي يتخذه ويفهم الوضع السياسي في إسرائيل بشكل شبه كامل، وهو بالتالي يميل إلى مدرسة اسحق رابين في أسلوب معالجة السلام في المنطقة. فما هي هذه «الأجندة» Agenda الذي مازال أوباما يضع أوراقها قريباً من صدره.

نقطة مهمة... أن العلاقة بين أوباما وإيمانويل بدأت في نهاية القرن الماضي، ثم تطورت في عام 2004. وشائعات واشنطن تشير إلى أن إيمانويل كان وراء دفع أوباما وتشجيعه على خوض معركة الرئاسة بالرغم من المعوقات التي كانت تعتبر وصول مرشح أسمر (أسود) إلى البيت الابيض ضرباً من المستحيلات.

في متابعة الرؤية لكل ما يجري في الولايات المتحدة أمسك الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل طرف الخيط الذي يمكن أن تكون «الأجندة» التي عناها أوباما في تصريح تعيينه لصديقه إيمانويل. ففي حواره الأخير مع قناة «الجزيرة العربية» قال هيكل ما معناه: إن هناك إسرائيلين واحدة أميركية وعاصمتها واشنطن والثانية صهيونية عاصمتها تل أبيب، وإن أوباما وضع الخطوط العريضة لسياسته في محاولة لحل هذا الصراع، وإن الحوار المستقبلي الفعلي، خلال فترة ولايته الأولى، لن يكون بين الفلسطينيين أو العرب أو الاثنين معاً من جانب وإسرائيل من الجانب الآخر، بل سيكون بين إسرائيل – أميركا وإسرائيلتين تل أبيب.

قول هيكل يحمل الكثير من العمق في جوانب مختلفة، فهو من جهة يشير إلى إمكان استبعاد العنصر العربي بشكل شبه كامل من المفاوضات، وفي الوقت ذاته يضع إصبعه على الجرح الذي لم يظهر إلى العلن بعد بين واشنطن وحليفتها الصهيونية. ذلك أن واشنطن قد بدأت تعي الحقائق على الأرض، ومن المحتمل أو المؤمل أن تتصرف حسب ما تقتضيه مصالحها دون تعريض مصالح إسرائيل للخطر. فعودة رصيدها الشعبي إلى المنطقة العربية إلى ما كان عليه قبل غزو العراق مرتبط إلى حد بعيد بحل القضية الفلسطينية. ودوام وضع يدها على منطقتنا الغنية بالمواد الأولية النادرة (النفط) وبالموقع الاستراتيجي الجغرافي يجبرها على الدفاع عن مصالحها ضد الغريب والقريب معاً، خصوصا أن هذه المصالح باتت مهددة بشكل ملموس وأصبحت في قلب الرياح العاتية القادمة من الشرق (روسيا والصين)، ومن داخل العالم العربي والإسلامي حيث الغضب ضد كل ما هو أميركي تجاوز درجة الغليان. وبقاء الوضع على حاله ومحاولة تجميده لتمييعه، كما تريد إسرائيل، هو نوع من الموت البطيء لمصالح الولايات المتحدة. وقد تأتي الكارثة دون أن تدركها واشنطن في ثياب حركة أو حركات موجهة إلى بعض الأنظمة التي اعتمدت عليها ولاتزال في تدجين الشعور القومي الوطني. ذلك كله يدخل في حسابات الفريق الجديد الذي سيحيط باوباما ويرسم معه السياسة الجديدة وعنوانها: مصالح أميركا فوق الجميع.

انطلاقاً من ذلك يمكن فهم ما قاله هيكل عن مفاوضة إسرائيل-واشنطن لإسرائيل-تل أبيب دون مشاركة العرب. وأيضاً أدراك مغزى ومعنى تعيين رام إيمانويل، وهو اليهودي القوي بين يهود أميركا الذي ينتمي الى مدرسة اسحق رابين في تبني النظرية القائلة إن إسرائيل مثل «البالون» قد اخذت حجمها الطبيعي، وأي زيادة على هذا الحجم قد تؤدي إلى انفجار هذا البالون بما فيه وبمن فيه. لذلك فإن السلام الذي قدمه العرب على طبق من فضة في قبول وجود إسرائيل في إطار عائلة الشرق الأوسط كدولة أبدية سرمدية يجب العمل به وبسرعة قبل أن تتدهور الأمور إلى الأسوأ، خصوصا أن أميركا خسرت- ولو مؤقتاً- سلاح السيطرة المالية على العالم نتيجة للازمة المالية العالمية.

من هذا المنطلق فإن رام إيمانويل «سيتخصص» بالشأن الإسرائيلي لإقناع قتلة إسحق رابين بأن الوقت قد حان لإنقاذ إسرائيل من نفسها وبالوسائل الواقعية، لا بكثرة الوعود الكلامية كما فعل بوش طيلة ثماني سنوات من حكم البيت الأبيض.

إن العرب يقفون اليوم على آخر خط الصلح مع إسرائيل. وإذا أغلقت تل أبيب الباب على هذه الفرصة النادرة فقد تمضي أجيال وأجيال قبل العثور على مثيلتها. إن أوباما يملك مفتاحاً وكلمة سحرية إذا ما استخدمها معاً قد تكون بداية النهاية. المفتاح هو اقناع إسرائيل بأن الحلم الصهيوني لن يتحقق وأن الوقت لا يعمل لمصلحتها. أما الكلمة السحرية فهي (DO IT OR ELSE) نفـّذ وإلا... ويجب أن يرافق هذه الجملة لهجة جدية وتصميم ملحوظين.

فهل يفعل أوباما، وهل ينجح إيــمــانــويــل فــي مهــمتــه المــحــدّدة بـ «الأجندة» في اختراق الصف اليهودي داخل أميركا وإسرائيل؟ أشك بذلك.

* كاتب لبناني