يقظة بابل
لمْ أرَ معرض «بابل» في لوفر باريس قبل أشهر، على الرغم من أنني كنتُ هناك. لأن كتاب المعرض المُرفق به كان بالفرنسية التي لا أُحسنها، ولأني كنتُ أطمع بشراء الكتاب بالدرجة الأولى، ثم أني عرفتُ بأن المعرض سيجيء إلى لندن، على كلّ حال.
قبل أكثر من أسبوع افتُتحَ المعرضُ في أحد أركان المتحف البريطاني، اشتريتُ الكتاب في المدخل، وفي الصالات الصغيرة اكتشفتُ أن المعرض أصغر مما توقعت، أصغر من الحجم الذي أملاه عليّ الإعلان المُسبق، وانتظاري التوّاق، على أني اكتشفت أن المعرض إنما يقتصر على سنوات لا تتجاوز ربع قرنٍ من الزمان من حياة «بابل»، المدينة الخالدة، هي سنوات المجد من حكم نبوخذ نَصر (605-562 ق.م)، لكن الذي رأيتُ من معروضاتٍ كان غذاءً دسماً، وفاتحةً مُشهيّة لقراءة الكتاب المنوّع، الضخم. ولكن للمعرض والكتاب هدفاً يتّضحُ منذ البدء مع العنوان، الذي يريد أن يميّز بين الأسطورة والواقع في حقيقة بابل وتاريخها، وكأنه نداء موجّه إلى الإنسان الغربي، بالدرجة الأولى. لأن الأسطورة في حقيقة بابل وتاريخها، لدى هذا الإنسان الغربي (ثم يليه الإنسان في العالم أجمع!)، قد حجبت الضوءَ عن الواقع التاريخي الذي كان، ولفترة قليلة مجهولاً، ويعود الأمر في مجمله إلى رواية «العهد القديم» من الكتاب المقدس، عن السبي الذي تعرّض له اليهود، بعد سقوط دولتهم، على يد الملك البابلي نبوخذ نَصر. روايةُ العهد القديم رسمت تاريخاً لبابل المنتصرة من زاوية نظر انتقامية للضحية المهزومة، فصورت التفوّقَ غطرسةً، والترفَ غلواً في الفساد، والتقدم الفكري والعلمي تحدياًً للذات الإلهية، ولاحقت الملك المنتصر باختلاق مصير له لا حقيقة له: أن يكون عرضةً لعقاب الله الذي يُذلّه بمرض الجنون، حتى يهتدي إلى دين المغلوبين: اليهودية. إن الذي ضاعف تأثير هذه الصورة الأسطورية في الإنسان الغربي، والتي وردت مُفصّلة في «سفر دانيال»، الاستجابةُ الخيالية المؤثّرة لفنّي الموسيقى والرسم، مازالت أوبرا «نبوكو» (نبوخذ نَصر) للإيطالي فيردي من أكثر أعماله شيوعاً في دور الأوبرا والتسجيل العالميين، وكلّ مواطن إيطالي لابد أنه يحفظ «نشيد الأسرى» الحزين في الأوبرا، ويأسى للمسبيين، ويتشفى من الملك البابلي بعد قهره بالتشرّد والجنون. وإذا كانت الموسيقى اقتصرت، بشكل رئيس على حكاية نبوخذ نَصر، وعلى حكاية ابنه ووريث عرشه «بلْشزار»، التي وردت في التورات (أوبرا لهاندل)، فإن الرسم اتسع لحكاية هذين بعد تركيزه على «برج بابل» المثير للخيال البصري، منذ لوحة الهولندي بروغل الأكثر شهرة، حتى اليوم. صالةُ المعرض الأولى افتتاحية غاية في التعبير عن العظمة: ريليف أسدٌ بالحجم الطبيعي، من الطين المفخور والمُزجّج بالشذري والألوان الأخرى، مُقتطع من جدارية أكبر حجماً، حيوانٌ أسطوري، بالتقنية ذاتها، خليط من الحية والنسر والأسد. مهارة توحي بالجلال والتقدّم معاً، مازالت تتوّجُ متحف برلين وبوابة عشتار هناك، حيث سينتقل هذا المعرض فيما بعد، ثم تحاولُ الصالات الصغيرةُ الأخرى أن تقص الحكاية الحقيقية عبر ألواح الطين المفخور، تشفّ من وراء الأسطورة، حكاية الحضارة التي أعطت اللمسات البكورية الأولى لعلوم المكان (المعمار، الري، خارطة الأرض، تصميم المدن...)، وعلوم الزمان (الفلك، الرياضيات، الفصول، الأيام، الساعات...)، على جانب تطلعات الروح في الفن والأدب. إن اقتصار المعرض على مرحلة نبوخذ نَصّر لن يحجب الرؤية عن مشهد الحضارة السومرية في أوروك وأور جنوب العراق (مسلّة حمورابي وملحمة جلجامش)، التي سبقتها بألف وخمسمئة عام، ولا الحضارة الآشورية في نينوى شمال العراق (منحوتات الحرب والثيران المجنحة الصخرية)، التي جاورتها ونافستها. بل على العكس، يشكل مركز جاذبية تاريخية متواصلة لحضارة واحدة. ولكن هل تشكّل مركز جاذبية لإنسان عراقي واحد؟ حين كنت أحدّق بالكتابة والرسوم فوق الألواح الطينية المفخورة كنتُ منحنياً وصامتاً، كمن أخذه شاغلُ القراءة في ركنه الأعزل. أقرأ ما يُهمهمُ به الأسلاف، وأفهم، يحدثُ هذا حين تتلاشى وطأةُ الزمان والمكان على الشاعر.