«فتوى التترس» فتوى قديمة استعادتها «القاعدة» لتوسيع إباحة دماء المسلمين، ومفاد الفتوى هي حق المسلمين في رمي الكفار إذا جعلوا من بعض المسلمين «ترسا» أي «رهائن» حتى لو مات هذا البعض.

Ad

يفند عاصم عبدالماجد تلك الفتوى القديمة، ويواجه طريقة تكريس «القاعدة» لفتوى التترس واستخدامها في إباحة أكبر مقدسات الإسلام ألا وهي دماء المسلمين.

الجريدة

وأخيراً نصل إلى أخطر القضايا التي تحتاج فيها «القاعدة» إلى مناصحة صادقة مخلصة من كل غيور على دينه محب لأمته حريص على الشباب المسلم أن تُهدّر دماؤه بغير حق، ألا وهي سحب أحكام مقاتلة الكفار في ديارهم إلى بلاد المسلمين من دون تبصر أو ترو، مما أدى إلى إهدار دماء المسلمين في أوطانهم بغير حق كما حدث في انفجارات المحيّا بالرياض.

ومن لديه أدنى غيرة على الدين لابد أنه أصيب بصدمة عندما سمع بنبأ تفجيرات في أحياء سكنية في ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم كان ضحاياها ثمانية عشر قتيلاً من المسلمين والعرب أغلبيتهم من النساء والأطفال، لأن الرجال كانوا حينئذٍ يؤدون صلاة القيام بالمساجد... وبدلاً من أن تعتذر «القاعدة» عن مجزرة أوقعت هذا العدد من المسلمين قتلى ولم يكن بينهم قتيل أميركي أو غربي واحد -وهم الذين تدعي القاعدة استهدافهم- نجد متحدثاً باسمها يتبنى العملية في جرأة عجيبة وفخر مُزرٍ.

الدماء المصونة

للوهلة الأولى يستشعر المرء أنه أمام مجموعة مستهترة بدماء المسلمين وحرماتهم تقتلهم بمثل هذه الصورة البشعة (في تفجيرات حي المحيا في مدينة الرياض)، ثم تفخر بهذا العمل المجنون وتتباهى به ولا تستحي من التهديد بتكراره.

لكن يغلب على ظني أن هذه الصورة ليست دقيقة، وأن أفراد «القاعدة» ذاتهم لا يستسيغون بسهولة قتل المسلمين في ديارهم بهذه الكيفية المفرطة في القسوة، لكنهم قد غلبهم الجهل بالأحكام الشرعية فالتبست عليهم بعض الفتاوي التي قيلت في شأن تترس جيش الكفار بالمسلمين أو رمي ديار الكفار بما يعم إهلاكه ولو كان فيهم مسلم أسير أو تاجر، فظنوا هذه الأحكام عامة مطلقة غير مشروطة فسحبوها على كل من تريد «القاعدة» مقاتلته بغض النظر عن الهيئة التي يكون عليها والمكان الذي يوجد به وبغض النظر عن استيفاء شروط جواز ذلك والتأكد من انتفاء موانعه.

وقبل أن نشرع في بيان ذلك بشيء من إجمال نقرر أولاً قاعدة أصولية عظيمة: «إن اليقين لا يُرفع بالشك ولا بالظن». ومناسبة هذه القاعدة لما نحن بصدده أن دماء المسلمين مصونة يحرم إراقتها بغير حق، وقد ثبت هذا بيقين لا شك فيه، وفيه آيات صريحة وأحاديث صحيحة، بل إنه قد استقر العلم به حتى صار من المعلوم من الدين بالضرورة فيجب على من يفتي بحل دم مسلم في واقعة ما أن يكون معه دليل قاطع يبيح هذا الدم الذي ثبتت عصمته من قبل بدليل قاطع لا لبس فيه، فهل لدى «القاعدة» دليل قاطع على استباحة دماء المسلمين على الوجه الذي فعلته في تفجيراتها؟

الجواب: لا، ثم لا، ثم لا.

الأوصاف الثلاثة

ولنستعرض في عجالة ما تستدل به «القاعدة» على جواز تفجيراتها، ثم نعقب ذلك ببيان الفارق الشاسع بين ما استدلوا به وما استدلوا عليه.

يحتجون بفتوى التترس وهي محل إجماع من أهل العلم.

يقول الغزالي رحمه الله في كتابه المستصفى: «الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا -أي قاتلونا- وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس -أي: المسلم الذي تترسوا به- لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً وهذا لا عهد به في الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضاً»... ثم أفتى الغزالي بجواز الرمي هنا وإن أفضى إلى قتل الترس المسلم، لكنه شرط لذلك ثلاثة أوصاف فقال: «وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورية قطعية كلية»، ثم قال رحمه الله: «وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم، إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة، فبنا غنية عن القلعة، فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها، لأنها ليست قطعية بل ظنية».

القرطبي و«القاعدة»

ويقول القرطبي، رحمه الله، في المعنى نفسه: «... وهذه الآية دليل على مراعاة الكافر في حرمة المؤمن، إذ لا يمكن إذاية الكافر إلا بإذاية المؤمن... قال أبو زيد «قلت لابن القاسم: أرأيت لو أن قوماً من المشركين في حصن من حصونهم حصرهم أهل الإسلام وفيهم قوم من المسلمين أسارى في أيديهم أيحرق هذا الحصن أم لا؟ قال: سمعت مالكاً وسئل عن قوم من المشركين في مراكبهم أنرمي في مراكبهم النار ومعهم الأسارى فقال مالك: لا أرى ذلك لقوله تعالى لأهل مكة: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً» – (الفتح - 25). وكذلك لو تترس كافر بمسلم لم يجز رميه».

ثم قال القرطبي رحمه الله: «قد يجوز قتل الترس ولا يكون في ذلك خلاف إن شاء الله، وذلك إذا كانت المصلحة ضرورية كلية قطعية، فمعنى كونها ضرورية أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس، ومعنى أنها كلية أنها حاصلة لكل الأمة حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس واستولوا على كل الأمة، ومعنى كونها قطعية أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعاً».

قال علماؤنا: وهذه المصلحة بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعاً فإما بأيدي العدو فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين، وإما بأيدي المسلمين فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون» ( أ.هـ وراجع تفسير القرطبي).

رمي الحصون

فهل الشروط التي ذكرها الغزالي والقرطبي متحققة في عمليات «القاعدة»؟ وهل هناك جيش للكفار متحصن وراء المسلمين الذين ترميهم «القاعدة» بمتفجراتها؟ وهل هؤلاء المسلمون مقتولون لا محالة بأيدي الكفار أو بأيدي «القاعدة»؟ وهل لو امتنعت «القاعدة» عن الرمي بمتفجراتها بين ديارنا ووسط أهلينا سينتهز الجيش الكافر تلك الفرصة السانحة ليحتل ديارنا ويقتل أهالينا؟ وهل المصلحة التي تبتغيها «القاعدة» بتفجيراتها كلية؟ أي هل تعود على الأمة كلها؟ وهل هي قطعية الحدوث أي نقطع يقيناً أو نظن قريباً من اليقين أنها ستتحقق بهذا الأسلوب؟

ويحتجون أيضاً بقول بعض أهل العلم بجواز رمي حصون الكفار حال قتال أهلها من المشركين بغرض الفتح ولو كان فيهم بعض المسلمين أسرى كانوا أو تجاراً، وهذا محل خلاف شديد بين أهل العلم.

يقول ابن الهمام الحنفي في كتابه «فتح القدير»: «ولا بأس برميهم -أي الكفار- في حصونهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر».ويقول ابن قدامة المقدسي في كتاب «المغني»: «وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم -أي الكفار- إلا بالرمي فقال الأوزاعي والليث: لا يجوز رميهم لقول الله تعالى:

«وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25)»- الفتح 25.

وقال الليث: ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق.

وقال الأوزاعي: كيف يرمون من لا يرونه إنما يرمون أطفال المسلمين؟!

وقال القاضي والشافعي: يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة، لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد.

مفخرة الإرهاب

لكن يحكي الرملي خلافاً عن الشافعي في هذه المسألة، فيقول كما جاء في كتاب «نهاية المحتاج على شرح المنهاج»: «فإن كان فيهم مسلم واحد أو أكثر أسير أو تاجر جاز ذلك -أي حصارهم- وتبييتهم في غفلة وقتلهم بما يعم وإن علم قتل المسلم بذلك، لكن يجب توقيه ما أمكن على المذهب لئلا يعطلوا الجهاد علينا بحبس مسلم عندهم».

ثم حكى الخلاف بقوله: «والطريق الثاني إن علم إهلاك المسلم لم يجز وإلا فقولان».

فلماذا سحبت «القاعدة» هذه الأحكام الخاصة بحصون الكفار إلى بلاد المسلمين؟ وهل صارت السعودية هي الأخرى في عرف «القاعدة» حصناً من حصون الكفار؟ وهل هانت شرائع الإسلام وشعائره التي تقيمها السعودية حتى جعلتها «القاعدة» هدفاً لسهامها؟ وكيف جرؤ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتفاخر بتفجيرات الرياض حتى سماها غزوة، وكأننا نتحدث من جديد عن «غزوة بدر» و«غزوة بني قريظة»، وكأن الإسلام الذي استقر في هذا البلد الأمين لا اعتبار له عندهم. كما لا اعتبار لدماء المسلمين التي سالت في الرياض أنهاراً ولا حتى لجثثهم التي تطايرت في السماء أشلاء؟ تساؤلات حائرة لم تجب عنها «القاعدة» وغالب ظني أنها لن تجيب عنها في الدنيا وأخشى أن تُسأل عنها في الآخرة.

(الحلقة القادمة... تفنيد ما تبقى من أسانيد التترس)