Ad

مَن يتابع وسائل الإعلام الخليجية، في ما يتعلق بمعالجاتها للأزمة الإيرانية، لا يجد مشكلات كتلك التي ظهرت في الإعلام الكويتي، مشيرة إلى خلل خطير يترجم في شقاق وتنابذ يبدأ سياسياً عادة وينتهي طائفياً في أغلب الأحيان.

لا يوجد بيننا من يمتلك القدرة على الإجابة عن السؤال الأهم: هل تقع الحرب ضد إيران على خلفية أزمتها النووية، أم سيتم التوصل إلى تسوية ما تجنب المنطقة والعالم ويلات معركة قد نعرف كيف ومتى تبدأ، لكن لن نعرف أبداً كيف ومتى ستنتهي، وبأي قدر من الضحايا والخسائر والكوارث. فإذا كنا متفائلين قليلاً، فدعونا نأمل في حل سياسي، يقود إيران ومعسكر المناوئين إلى تسوية، تتناسب مع فرص كل عضو في النزال وقواه الظاهرة والكامنة وقدراته على التفاوض، وتبعد شبح الحرب عن المنطقة الملتهبة والمتوترة، وعن العالم المأزوم بارتفاع الأسعار، والشره لإمدادات النفط، والمتضرر من «صراع الحضارات» والعنف والعنف المضاد، أو «إرهاب الدول»، و«إرهاب الجماعات».

فإذا ظهر الحل السياسي، وجنّب المنطقة والعالم شرور المواجهة، و«كفى المؤمنين شر القتال»، وراحت إيران تلعق جراحها، أو تحصي «حوافزها»، أو تستكمل أوراق عضويتها في «النادي النووي»، وراحت واشنطن، وحلفاؤها، تبني «نظام ردع واحتواء»، أو تزهو بنصر لم يرق على جوانبه الدم، حسب مسارات التفاوض وشروط فض الاشتباك، فكيف ستجد الكويت نفسها؟

ستجد الكويت نفسها غارمة ومتضررة، رغم انحسار خطر الحرب بتكاليفه المريرة، وسيكون مجتمعها الأكثر تأثراً بشظايا معركة لم تشتعل أصلاً، وبتداعيات صدام لم يحتدم في الجوار، بعدما جنّب الله الجميع شرور اندلاعه.

فالكويت دخلت أجواء المعركة قبل اندلاعها، وقبل استنفاد فرص التسوية والحلول السياسية؛ فبرز الانقسام واضحاً في الإعلام ومنابر الحوار الاجتماعي بين مَن يؤيدون، بالعقل والقلب، إيران، ومن يأخذون عليها «نزوعها نحو المواجهة وحرق فرص السلام».

وليت الأمر اقتصر على اصطفاف فكري موضوعي، ينبني على تحليل للسياسات، فيستعرض الحجج والأفكار، ويؤيدها أو يدحضها، أو يطرحها للنقاش العام، لكنه، للأسف الشديد، تحول اصطفافاً عقائدياً، وتمترساً طائفياً، ومقارعة ديماجوجية، رشحت عن اعتوار منهجي، وكشفت خللاً جوهرياً في بنية مجتمع لا تعوزه الديمقراطية، فتنسد أمامه أفق التعبير الحر المنضبط، ولا ينقصه المال فتغلق في وجهه أبواب الأمل، ولا يفتقد التجربة السياسية والخبرة العميقة، فينصرف إلى ممارسات بدائية وصراعات هوية.

ويمكن القول إن خمس دول عربية خليجية، على الأقل، تقع مباشرة في مرمى أي صراع إيراني- أميركي، وإنها، لظروف جيوبولتيكية، وعوامل تاريخية، واعتبارات اقتصادية، واستحقاقات سياسية، مضطرة إلى دفع أثمان باهظة لقاء كل اصطدام أو اشتباك بين الطرفين، كما أنها مضطرة أيضاً لتمويل تكاليف أي توافق أو تحالف أو تفاهم بين الجانبين، وربما دفع فواتيره مهما كانت مؤلمة.

فالإمارات تحبس أنفاسها متحسبة من المس بالأمن والاستقرار، اللذين هما تميمة حظها ودعامة بنائها الاقتصادي- التجاري- الخدمي، وفي الوقت ذاته تحسب الحسابات الملتبسة في ما يتعلق بانعكاسات الحاصل على أزمة احتلال جزرها الثلاث في الخليج.

وقطر تجد نفسها مهمومة بأعباء استضافة لوجيستية لأحد طرفي النزال، واستضافة تقنية- سياسية للاعب رئيس في حروب المنطقة وسلامها (الجزيرة)، بينما البحرين مسكونة بهواجس استباحة قديمة، وموجوعة بانقسام طائفي يبدو المكتوم منه أكثر من الظاهر.

أما المملكة العربية السعودية فمشكلاتها بحجم ما تمتلك من نفوذ ومكانة، فمن ناحية ثمة مشكلات طائفية قد يغذيها الصدام، ومن ناحية أخرى هناك استحقاقات وضعها الإقليمي، وأعباء العمق الاستراتيجي، وأثمان التحالفات، والمهمة الحيوية المتعلقة بتأمين إمدادات النفط؛ فلا تتضرر المدخلات التي تحتاجها الدولة، ولا تُمس قدرة المصدر الأهم على سد حاجة العالم المتزايدة للطاقة.

لكن مَن يتابع وسائل الإعلام الخليجية، في ما يتعلق بمعالجاتها للأزمة الإيرانية، لا يجد مشكلات كتلك التي ظهرت في الإعلام الكويتي، مشيرة إلى خلل خطير يترجم في شقاق وتنابذ يبدأ سياسياً عادة وينتهي طائفياً في أغلب الأحيان.

وكما حدث إبان أزمة تأبين عماد مغنية، فقد تحول العقل الجمعي الكويتي بوتقة تصهر فيها إفرازات أسوأ ما في الواقع الإقليمي من مشاحنات طائفية وصدامات دينية. بل باتت وسائل الإعلام الكويتية الإلكترونية تحديداً ميداناً خصباً لتصفية الحسابات الطائفية، وتعلية الخطاب الإقصائي والاستعلائي، واستخدام اللغة التكفيرية والتخوينية، بشكل يفوق ما يتداول في دول ومجتمعات تشهد حروباً طائفية واشتباكات فتنة واقعية.

يقف معظم دول الخليج العربية على مسافة واحدة من الحدث الإيراني في تطوراته نحو الحسم العسكري أو السياسي، لكن الكويت وحدها تعيش المعركة منذ اليوم الأول، وتفرز أسوأ ما فيها في مقالات وتعليقات وتحليلات، تترك أثاراً لن يمحيها الزمن بسهولة على الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي وحقوق الإنسان والأمن القومي.

يجب أن يكون ثمة عقلاء يراهنون على أن الأزمة الإيرانية قد تنفرج من دون حرب، ويستوعبون أن تلك الأزمة، سواء تطورت حرباً أو سلماً، لا يجب أن تكوي الكويت بنارها في الحالتين، بل يجب أن تبحث عن الحلول التي تجنبها تكاليفها، وربما تحقق لها الفوائد والمكاسب، كما تفكر المجتمعات ذات الخبرة والرشد.

*كاتب مصري