كان كل شيء في حياتي قد أصبح مهيأًً لدخولي المعترك السياسي عندما دعاني الرئيس فؤاد شهاب إلى الاجتماع به ذات ليلة خريفية من عام 1959. اجتماعياً، وثقافياً، ومهنياً كنت قد بلغت حداً مقبولاً من الاستقرار والنجاح، لكأن القدر لعب دوره في أن أكون في الوضع المناسب، يوم قرر الرئيس شهاب تجاوز طبقة سياسية راقبها طوال ربع قرن، وعرف محدوديتها وعدم قدرتها على أن تقوم بدور إرساء أسس الدولة القوية والعادلة، بمعناها الحديث، التي كان يراها سبيلاً أوحد لترسيخ الأمن والاستقرار والازدهار في لبنان ولتحرير أبنائه تدريجياً من تقديم مختلف الولاءات على الولاء للوطن.

Ad

كان هو يفتش وأنا كنت قد نضجت، وحصل اللقاء بيننا. وانطلقت مذّاك رحلتي مع الشأن العام إلى جانب رئيس للجمهورية هو عن حق وجدارة أمير في النبل، ومعلم في الوطنية، وقائد في مقدم لواء المواطنين الباحثين عن خير شعبهم.

لقاء لم ينته

رنّ جرس الهاتف في مكتبي، عصر الثلاثين من أيلول (سبتمبر) سنة 1959، وأنا منشغل بإعداد مطالعة قانونية بعد نهار عمل طويل. فاجأني الاتصال. وكان الأستاذ الياس سركيس من القصر الجمهوري. طبعاً، كنت أعرف أنه مدير عام غرفة الرئاسة، ولكن لم يسبق لي أن قابلته شخصياً. وبلهجته اللطيفة الهادئة التي تعكس صورة عن أخلاقه الدمثة وطبعه الهادئ والراقي، عرّفني عن نفسه، وطلب أن يجتمع بي، «في الحال إذا أمكن»، بعيداً عن القصر الجمهوري ومكتبي، لأمر مهم. فاتفقنا على الاجتماع في مقهى في منطقة فرن الشباك بعدما تبادلنا المعلومات عن لون الملابس التي نرتدي.

وعندما حصل اللقاء، أخبرني أن الرئيس فؤاد شهاب يفكّر في توسيع الحكومة الرباعية التي استقال منها عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون إده، وأن اسمي مطروح كممثل عن الأرثوذكس، قائلاً «ابق في بيروت لأنك، على الأرجح، ستتلقى مكالمة هاتفية ليلاً».

في العاشرة والربع ليلاً، رن جرس الهاتف، وكان على الطرف الآخر من الخط ناظم عكاري، مدير عام رئاسة الحكومة، يدعوني إلى المجيء إلى منزل رئيس الجمهورية في جونية. دخلت منزل الرئيس فوجدته في قاعة الاستقبال وإلى جانبه الرئيس رشيد كرامي الذي نظر تلقائياً إلى الرئيس شهاب في ما هما ينهضان لاستقبالي، وقال: «الأستاذ فؤاد بطرس» أجلسني قبالته، وشرع يشرح لي الخطوط العريضة لمشروعه الرامي إلى بناء لبنان على قواعد صلبة.

من جهتي، لم يكن في وسعي إلا أن أشكر للرئيس شهاب ثقته بي، ولم يسعني، بعدما أطلعني على مشروعه الكبير في سبيل بناء الدولة في لبنان، إلا أن أسأله:

- ولكنك يا فخامة الرئيس لا تعرفني، فكيف تجازف بتعييني وزيراً؟

- صحيح أنني لا أعرفك شخصياً، ولكني أعرف أشياء كثيرة عنك، وعن عائلتك، جعلتني آخذ هذه المجازفة. ولي ثقة كبيرة بأنك ستكون على قدر المهمة التي سأوكل بها إليك.

تطرقنا في الوقت المتبقي من المقابلة إلى الحقيبتين الوزاريتين اللتين ستسندان إليّ، أي التربية والتصميم. وقد أوجز لي الرئيس ما يتوقع مني تحقيقه في هذين المجالين.

شعرت بأن التيار مرّ فوراً بيننا وبأن حياتي اكتسبت بعداً جديداً. دخلت منزل رئيس الجمهورية مواطناً يراقب، عن بُعد، سياسته الرامية إلى إخراج البلاد من التشنج الطائفي الذي كانت تعيشه منذ أكثر من سنتين، وخرجت منه شريكاً في مشروع إنقاذي وددتُ لو أن جميع اللبنانيين يشتركون فيه.

أسرار المعلم

إلى جانب اهتمامي بالوزارتين المسندتين إليّ، تمكّنت، من خلال موقعي الجديد، من معرفة الكثير من خفايا الحياة السياسية المتعلقة بأحداث العامين المنصرمين من عهد الرئيس فؤاد شهاب الذي أخذت علاقتي به تتوثق أكثر فأكثر. وقد اطلعت منه على ظروف تشكيل حكومة عهده الأولى، في الرابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1958 برئاسة رشيد كرامي التي عارضتها القوى المسيحية لأنها لم تحترم شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي رفعه الحكم إيذاناً بانتهاء الأزمة المشتعلة منذ التاسع من أيار (مايو). وقال لي الرئيس في حينه، إنه استحسن تشكيل الحكومة الكرامية الأولى لأن المعارضين، وعلى رأسهم صائب سلام وكمال جنبلاط، أصروا على أن يشكل رشيد كرامي الحكومة وأن تضم معارضين وحياديين فقط، تاركاً للأحداث أن تبرهن للجميع بأنه يستحيل على أي فئة أن تستبعد الأخرى.

وأسر إليّ الرئيس شهاب في أحد الأيام بأنه لم يكن بعيداً عن أجواء «الثورة المضادة» التي شنها حزب الكتائب بالتعاون مع القوى الموالية للرئيس السابق كميل شمعون وأنه كان مرتاحاً إليها، وأسهم، في شكل من الأشكال، في وصولها إلى خواتيمها المرجوة. وألمح أمامي إلى أن مساهمته تخطت حد عدم استعمال الجيش لقمع المتظاهرين لأنه كان مقتنعاً بأن التوازن في لبنان أمر حيوي وبأن فرص نجاح مشروع بناء الدولة الحديثة القوية ستكون ضئيلة مادامت هناك فئة لبنانية ترى نفسها على هامش الحياة السياسية اللبنانية.

«اجتماع الخيمة»

وعلى مستوى السياسة الخارجية، انتهج الرئيس فؤاد شهاب سياسة عربية مغايرة لسياسة سلفه، قامت على التفاهم مع رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبدالناصر على قاعدة تناغم لبنان مع سياسة مصر العربية وإلى حد ما الخارجية مقابل عدم تدخل القاهرة أو دمشق في الشؤون الداخلية اللبنانية. وقد كرست هذه القاعدة القمة الوحيدة التي عقدها الرئيسان اللبناني والمصري في اجتماع الخيمة الشهير على الحدود اللبنانية-السورية في الخامس والعشرين من آذار (مارس) 1959.

وعلمت في ما بعد أن الرئيس شهاب هو صاحب فكرة الاجتماع، وأرسل الضابط أحمد الحاج إلى دمشق يطلب عقد قمة على الحدود فلم يوافق المسؤولون السوريون مقترحين من جهتهم أن يتم اللقاء في دمشق. فأعاد رئيس الجمهورية الكرة لكن مع المسؤولين المصريين الذين وافقوا فوراً على الاقتراح وعملوا على تحقيقه. وأطلعني لاحقاً الجنرال فرنسوا جينادري الذي رافق الرئيس شهاب إلى اجتماع الخيمة على تفاصيل ذات دلالة كبيرة.

يومذاك، وصل الرئيس اللبناني إلى منطقة الحدود قبل نظيره المصري وكان في استقباله رئيس المخابرات السورية عبدالحميد سرّاج، بعد نحو عشر دقائق، حطت الطوافة التي تقل الرئيس عبدالناصر على بعد أربعين أو خمسين متراً داخل الأراضي السورية، فنظر سرّاج إلى الرئيس شهاب وقال له: «لقد وصل سيادة الرئيس عبدالناصر، ألا تود أن تستقبله يا فخامة الرئيس؟» فأجابه: «لقد حطت طوافة الرئيس عبدالناصر على أرضه، كيف لي أن أستقبله في بلده؟ ثم لا تنس أن سيادة الرئيس، قبل وصوله إلى السلطة، كان عقيداً أما أنا فلواء». وهكذا كان الاستقبال على الحدود بين البلدين، والاجتماع في خيمة نصفها في لبنان ونصفها في الجمهورية العربية المتحدة.

أرسى اجتماع الخيمة، بالشكليات التي تم احترامها، معادلة ثابتة شكّلت صمّام أمان للاستقرار في لبنان حتى هزيمة عام 1967: احترام سيادة لبنان من جانب القطب العربي الأبرز مقابل تفاهم على ألا تتعارض السياسة الخارجية اللبنانية مع السياسة العربية والدولية التي تنتهجها الجمهورية العربية المتحدة ولكن من غير أن يفرض ذلك على لبنان التخلي عن صداقاته مع العالم الخارجي.

«القماشة» الوحيدة

شاركت في حياتي السياسية في الكثير من الحكومات، وغالباً ما كانت تضم شخصيات على مستوى عال جداً من المسؤولية والترفع، ولكن كان ثمة طابع خاص للجلسات الوزارية برئاسة الرئيس فؤاد شهاب التي كنا نعقدها في القصر الجمهوري في ذوق مكايل أو في منزله في جونية، وكلاهما، في المناسبة، متواضعان. ومازلت أذكر الطاولة التي كنا نتحلّق حولها في منزله كم كانت عادية، فلم نشعر يوماً بالعلياء أو التصنع الذي قد يؤثر في ذهنية المسؤول.

قررت خوض الانتخابات النيابية، ولم يكن يفصلنا عن الدورة الأولى المخصصة لبيروت التي ترشحت عن أحد المقاعد المخصصة لها إلا أقل من شهر. وبعدما أعلنت ترشيحي، كان هناك رجل أعمال محترم اسمه بولس فياض يريد أيضاً أن يتقدم بترشّحه عن المقعد الأرثوذكسي في الأشرفية. فقام بزيارة رئيس الجمهورية وقال له: أريد أن أترشح للانتخابات، وأتمنى أن تساعدني. فأجابه بأنه لا يتدخل في العملية الانتخابية. عندها سأله بولس فياض دون مواربة: «ماذا عن ترشيح الوزير بطرس؟» ردّ الجنرال قائلاً: «أنا لا أتدخل بينك وبين الوزير بطرس في الانتخابات ولكن سأقول لك شيئاً أنا، في الواقع، أصلي لكي يفوز الوزير بطرس، ألا يحق لي برأيك أن أصلي لهذا الغرض؟ وهل تعتبر أنه تدخل في الانتخابات؟». وقصد فيّاض متروبوليت بيروت المطران إيليا الصليبي، وقال له إن الرئيس شهاب حيادي في الانتخابات وأخبره قصة اجتماعه به كاملة. وقد رواها لي المتروبوليت بعد سنوات عدة، بعدما توطدت علاقتي به.

انتهت المعارك الانتخابية في الثالث من تموز (يوليو) وأسفرت عن فوز خمسة وأربعين نائباً جديداً وخروج أربعة وثلاثين نائباً من بينهم الرئيسان سامي وتقي الدين الصلح وبيار إده وغيرهم. وبعد بضعة أيام، زرت الرئيس شهاب وما إن دخلت إلى مكتبه حتى بادرني بالقول باللغة الفرنسية: «أنت تعزيتي الوحيدة في هذه الانتخابات، كنت أتمنى لو فاز ثلاثة أو أربعة نواب من قماشتك.

صعدت بعد ذلك إلى منزلي الصيفي في عاليه لتمضية بعض الوقت مع العائلة. وفي الخامس عشر من تموز (يوليو)، زارني الياس سركيس وقال لي: «إن انتخابات مكتب المجلس النيابي بعد ثلاثة أيام، وصبري حمادة أخذ مواقف مؤيدة للعهد ولكن كما تعلم هو بحاجة إلى شخص متعلّم ولديه ثقافة قانونية ويجيد لغات أجنبية يكون إلى جانبه، أنت هو الشخص الذي لديه هذه الصفات، لذلك يريدك المعلم نائباً لرئيس مجلس النواب، وهو سيكلم الرئيس صبري حمادة ولن يكون إلا راضياً». وافقت في الحال، لأن من شرب البحر لا يغص بالساقية. وخضنا انتخابات مكتب المجلس وفاز الرئيس صبري حمادة بالرئاسة وفزت بنيابة الرئاسة بأكثرية ملحوظة في مواجهة منير أبو فاضل.

فلسفة «معليش»

في العشرين من تموز (يوليو) 1960، وبينما كانت البلاد لاتزال تعيش في أجواء نتائج الانتخابات التشريعية وتنتظر أن يتقدم الرئيس أحمد الداعوق باستقالة حكومته التي شُكّلت للإشراف على إجراء العملية الانتخابية، صعق البلد في الساعة الواحدة والنصف بخبر استقالة رئيس الجمهورية.

ولم تنته إذاعة بيان الاستقالة الرئاسية حتى ضجت البلاد من أقصاها إلى أقصاها وهرع تسعون نائباً والعديد من الشخصيات من بينها بعض رموز المعارضة مثل عميد حزب الكتلة الوطنية ريمون إده إلى منزل الرئيس في جونية، ونزل الناس إلى الشارع يطالبونه بالعودة عن استقالته، عند الثامنة إلا خمس دقائق مساء، سحب الرئيس شهاب استقالته. وتحدثت مع الرئيس في ما بعد عن أسباب إقدامه على الاستقالة، وقد أخبرني أنه اعتبر حينذاك أن مجلس النواب انتخبه للقيام بمهمة إعادة البلاد إلى الاستقرار والنظام بعد أحداث سنة 1958، وأنه أنجزها بإجراء الانتخابات النيابية سنة 1960. وقد رأى بالتالي أن عليه العودة إلى المجلس النيابي لمعرفة ما إذا كان لايزال يرغب في بقائه في سدة الرئاسة الأولى بعدما أتم المهمة الموكلة إليه، تماماً كما حصل سنة 1952.

بدأت اجتماعات المجلس النيابي وشعرت خلالها بأن البرلمان يفتقر إلى الاحتراف وبأن بعض الزملاء ليسوا على المستوى المطلوب خصوصاً لناحية أسلوب التعاطي في ما بينهم فكثيراً ما كانت الجلسات تنقلب إلى مشادات كلامية حادة تصحبها كلمات نابية لا تليق بأعضاء السلطة التشريعية.

كانت لي في تلك الفترة مقالات ومواقف عدة تحذّر من تحكم اللامبالاة والاستهتار بالأصول الديمقراطية وقواعد العمل السياسي العصري والصحيح، وتطلق فكرة تشكيل نواة برلمانية تهدف إلى تطوير الحياة السياسية اللبنانية، ومنها مقالة نشرتها صحيفة «لسان الحال» في التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) 1960 تحت عنوان «معليش»، ومما جاء فيها:

(...) يبدو لي أن كثيراً من أبناء هذا الوطن يدينون بفلسفة «معليش».

بعد يومين من استقالة الرئيس سلام، اجتمعت بالرئيس شهاب في القصر الجمهوري فطلب مني الانضمام إلى الحكومة المنوي تشكيلها وتولي حقيبة العدل. أمام إصراره، طلبت أربعاً وعشرين ساعة للتفكير ووجدت أنه ليس بإمكاني إلا أن أقبل. ومنذ اليوم الأول، وجدت الحكومة نفسها أمام مأزق التعامل مع الحكومة السورية المنبثقة من الانقلاب الذي أطاح الوحدة المصرية- السورية.

نظام بوليسي

كان انقضى منتصف ليل الثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) 1961، عندما جاءني اتصال من أحد كبار ضباط الجيش اللبناني يعلمني أن ثمة محاولة انقلاب يقوم بها القوميون السوريون. ونصحني بأن أترك المنزل وأمضي ما تبقى من الليل في مكان آمن ريثما تستتب الأوضاع. لم نضع الوقت، انتقلت مع زوجتي على الفور إلى منزل شقيقتها التي تقطن في مكان غير بعيد عن بيتنا.

بدا الرئيس منذ البداية مصراً على عدم إعلان حال الطوارئ في البلاد أو اللجوء إلى الأحكام العرفية التي يلجأ إليها عادة الرؤساء الذين ينجحون في إحباط محاولة الانقلاب ضدهم للاقتصاص من المناوئين لهم. بل على العكس، لمست منه إصراراً على التمسك بالقوانين العادية والأعراف الديمقراطية، وإعادة الهدوء إلى الوضع وطمأنة اللبنانيين بأسرع وقت ممكن.

استتب الأمن في غضون ساعات قليلة، وانطلقت القوى الأمنية في حملة مطاردة للقوميين استمرت أكثر من عشرين يوماً، وأسفرت عن اعتقال أكثر من عشرة آلاف شخص لم تتسع لهم السجون، فجرى احتجاز كثير منهم في الثكنات التابعة للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. وأصدرت المحكمة العسكرية، في الثامن عشر من أيلول (سبتمبر) 1962، أحكامها بحق السوريين القوميين الذين نظموا الانقلاب وحاولوا تنفيذه وقضت بإعدام تسعة وسبعين متهماً، من بينهم ثمانية وستون غيابياً.

كل من عايش المرحلة التي شهدت محاولة انقلاب القوميين يذكر مدى القلق الذي ساور المسؤولين والمواطنين على السواء. وقد تعاظم هذا الشعور مع استمرار حملات المداهمة التي قامت بها الشعبة الثانية واكتشاف مخازن أسلحة وانكشاف تفاصيل المخططات التي أعدها القوميون. ومما لا شك فيه أن محاولة الانقلاب عزّزت موقف المكتب الثاني ودوره في صلب النظام اللبناني الذي بات ابتداء منذ ذلك التاريخ يشعر بأنه مهدد.

انتظرت البلاد بفارغ الصبر قرار محكمة التمييز العسكرية في قضية انقلاب القوميين بين السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1962 والخامس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1963. ثبتت المحكمة حكم الإعدام بحق ثمانية أشخاص فقط لكن بالأكثرية مع مخالفة الرئيس أبوخير. وقد أصدر الرئيس شهاب في اليوم ما قبل الأخير من عهده عفوا خاصاً عن القوميين الثمانية المحكومين بالإعدام بدّل فيه العقوبة بالسجن المؤبد.

وفي اعتقادي اليوم أن من اتهموا العهد الشهابي بإقامة نظام بوليسي لم يكونوا يعرفون ما تعنيه اتهاماتهم بالضبط، لأنه بالمقارنة بين ما كانت تقوم به الشعبة الثانية أيام الرئيس شهاب وما قامت به الأجهزة الأمنية بين مطلع التسعينيات ومنتصف عام 2005، تبدو ممارسات الشعبة الثانية أشبه «بالدوناتس».

أسطورة التجديد

حلّ رئيس الجمهورية فؤاد شهاب مجلس النواب في الثامن عشر من شباط (فبراير) 1964 ودعا الهيئات الناخبة إلى الانتخابات بين الخامس من نيسان (ابريل) والثالث من آيار (مايو). وتقدم كرامي باستقالة حكومته التي ضربت رقماً قياسياً في العمر، سنتان وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوماً. وشكّل الرئيس حسين العويني حكومة حيادية من غير المرشحين ضمت عشرة وزراء للإشراف على الانتخابات.

واكبتُ عن قرب مسألة التجديد مذ إن بدأ طرحها جدياً، وكان همّ الرئيس شهاب أن يتم الحفاظ على ما وضعه من أسس لإنشاء دولة حديثة وبناء مؤسسات مثل مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي والضمان الاجتماعي ومصرف لبنان إلى ما سوى ذلك من دوائر رسمية أنشئت لعصرنة الدولة وأجهزتها.

ترك الرئيس شهاب عملية التجديد تسير، على رغم إصراره على رفضها، لأنه أراد أن يظهر للعلن شبه إجماع اللبنانيين على تأييد ما أنجزه العهد. واجتمعت بالرئيس فؤاد شهاب واستعرضنا أسماء المرشحين فاستبعد تلقائياً اسم النائب عبدالعزيز شهاب لا لسبب إلا لأنه من آل شهاب. كان يخشى بأن يتهم بالسعي إلى إعادة تأسيس إمارة شهابية مقنّعة. واستبعد أيضاً أسماء كثيرة ولم يتبق في سلة المرشحين الجديين سوى شارل حلو. فاستحسن رئيس الجمهورية فكرة ترشيحه لأنه اختبره لفترة في رئاسة مجلس السياحة ثم في الحكومة واعتقد أنه مقتنع بالسياسة الشهابية في الحكم وبأنه بالتالي سيتبناها خلال ولايته ويعمل بموجب مبادئها.

اجتمعنا في ساحة النجمة في اليوم المحدد، وفاز شارل حلو في الدورة الأولى بشبه إجماع النواب، وحاز اثنين وتسعين صوتاً مقابل خمسة أصوات لبيار الجميل الذي أصر على الاستمرار في ترشحه «من أجل المبدأ» الديمقراطي ووُجدت في صندوق الاقتراع ورقتان بيضاوان.

بعدما هدأت الأجواء وقبل حفل التسليم والتسلم بين الرئيسين شهاب وحلو، زرت الرئيس شهاب في منزله الصيفي في عجلتون، وتحدثنا عما جرى في الأسابيع المنصرمة، واستشرفنا المرحلة المقبلة وتحدياتها. وفجأة، ومن دون مقدمات، قال لي: «بتعرف، إذا كان شارل حلو يحسن التصرف فإنه سيعينك وزير خارجية، أنت الآن دورك أن تكون وزير خارجية».

جونسون والقصر

قامت استراتيجية الرئيس شهاب خلال سنوات حكمه على المعادلة التالية: إشعار كل مجموعة لبنانية أن حضورها غير منتقص وأن خصوصياتها مأخوذة بالاعتبار ومحترمة، وفي المقابل، تحترم المجموعات الدولة اللبنانية بكامل مؤسساتها ككيان وطني مترفع حيادي ومستقل يعمل في سبيل الخير العام.

حاول الرئيس شهاب أن يشعر المسيحيين بأنهم يعيشون في دولة حرة، سيدة، مستقلة. لا يتدخل في شؤونها الداخلية أحد ولا تفرض عليها سياسة محاور تلزمها بالتقوقع وتجرها إلى الحرب.

ومن الأمثلة على تمسك الرئيس شهاب بسيادة لبنان وكرامة أبنائه ما أخبرني إياه اللواء أحمد الحاج عن طريقة وداع الرئيس اللبناني لنائب الرئيس الأميركي ليندون جونسون الذي زاره مطلع الستينيات. إذ عندما خرج جونسون من مكتب الرئيس فوجئ الحاضرون أن الرئيس شهاب توقف عند عتبة باب المكتب ولم يرافق ضيفه إلى أبعد مكتفياً بالقول: «وداعاً، حضرة نائب الرئيس». وتولى كبار موظفي القصر الجمهوري مرافقة الضيف الأميركي إلى الخارج، فنظر الرئيس شهاب إلى اللواء الحاج، وكان في حينه نقيباً، وقال له: «هذا نرافقه إلى هنا فقط، لو كان الضيف الرئيس كينيدي لكنت رافقته إلى الخارج، موقع رئاسة الجمهورية ليس ملكي إنه ملككم وعليّ أن أحافظ عليه من أجلكم».

في المقابل، تفهم الرئيس شهاب نبض الشارع الإسلامي المتعاطف مع القضايا العربية الكبرى وفي مقدمها القضية الفلسطينية. والتزم خط التفاهم مع الرئيس عبدالناصر مجسد آمال الشعوب العربية وتوقها في حينه إلى نهضة في وجه إسرائيل التي يدعمها العالم الغربي.

لا أدعي أن فؤاد شهاب أوجد حلولاً لكل المشاكل التي وقعت تباعاً في لبنان، خصوصاً أنه لم تحصل مشكلة كان مصدرها الأساسي والوحيد لبنان بقدر ما انعكست التعقيدات الإقليمية على الوضع اللبناني الهش والفاقد المناعة. فالظروف والمعطيات الموضوعية كانت ستؤدي إلى النتيجة عينها تقريباً، أياً كان رئيس الجمهورية. ففؤاد شهاب لم يكن يمتلك العصا السحرية التي كانت وحدها كفيلة بإنقاذ الوضع اللبناني المتجه، منذ هزيمة عام 1967، بخطى متسارعة نحو الانفجار.

يتبع