يبدو أن حملة جورج بوش الكونية ضد «الإرهاب» قد وضعت أوزارها أو أنها توشك على ذلك، ليس لانتصار أنجزته أو لتسوية آلت إليها (هي متعذرة تعذرا مبدئيا) أو لقرار اتخذه قائدها الأميركي بوقفها، بل بمفعول ضرب من التلاشي والاضمحلال ألمّا بها، لانفراط عقد «التحالف» الذي أقامته إدارة بوش، بعيْد عدوان الحادي عشر من سبتمبر، من أجل خوضها، وقد كان «تحالفا» طوعيا في ما ندر من الحالات، أو صاغته واشنطن «المحافظين الجدد» وفرضته بواسطة القسر والابتزاز.

Ad

لم تنته إدارة بوش، إذ لن يحلّ أجلها، دستوريا وقانونيا، إلا أواخر هذه السنة، ولكن العالم، ولاسيما من يُفترض أنهم حلفاء، سارع يطوي صفحتها ويتجاوزها، أقله في ما يتعلق بـ«محاربة الإرهاب» تلك التي كانت إدارة بوش قد حددتها مبدأ، معيارا للفصل بين «الأصدقاء» و«الأعداء»، بين من هم «معنا» ومن هم «ضدنا»، وأرادت أن ترسي عليها، على نحو حصري أو يكاد، اصطفافات العالم.

لم يبق، بين حلفاء أميركا، من آخذ بذلك المبدأ على ما يبدو، إذ ما عاد الرئيس الأفغاني حامد كرزاي يتورع عن دعوة حركة طالبان إلى التفاوض بشأن «مستقبل أفغانستان» على ما جاء في الأنباء، وعن أن يسعى إلى ذلك سعيا، في حين انبرت الدولة العبرية تفاوض سورية، وإن بواسطةٍ تركية، وربما كانت تركيّا تلك الواسطة من عوامل جديتها، وذلك في خطوة لم تحرز، على الأرجح، مباركة واشنطن أو موافقتها، وهي التي لاتزال تعتبر دمشق ونظامها في عداد المارقين، دولة تؤوي إرهابيين، حليفة لإيران، حُقّ عليها العزل والإقصاء من جرّاء كل ذلك. أما الحجر «الصحي» المضروب حول حركة «حماس» الفلسطينية، تلك التي أدرجها الغرب، بإيعاز وبضغط أميركيين، في قائمة «المنظمات الإرهابية»، فتآكل وانتُهِك، على يدي رئيس أميركي سابق، هو جيمي كارتر الذي التقى قادة «حماس» ونال منهم الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة سنة 1967، مع شروط وضعوها ليست بالمشطّة ولا بالتعجيزية، وعلى يدي فرنسا، التي يحكمها أول رئيس أميركي الهوى في تاريخ جمهوريتها الخامسة، والتي أعلنت أنها أجرت وتجري اتصالات بالتنظيم الإسلامي الفلسطيني. هذا ناهيك عن حوار الدوحة، بين «موالاة» لبنان و«معارضته»، وعلى رأسها «حزب الله» الذي تحلّه واشنطن مكان الصدارة أو ما يدانيها، بين أعدائها، وكان الحوار ذاك برعاية دولة قطر، أحد أوثق حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.

وهكذا، يبدو أن المعسكر الذي أرادت إدارة بوش أن تقيمه «فسطاطا» محكما صلدا في مواجهة «الإرهاب» قد تفكك عمليا وتلاشى فعلا، أتى عليه الفشل الأميركي في أفغانستان وفي العراق، وأجهزت عليه الاعتبارات الخاصة والعينية للضالعين فيه، ممن لم يقتنعوا في العمق بتلك المقاربة الأميركية، وإن أبدوا استجابة لها، انتهازا (شأن ما فعلت إسرائيل، التي سرّها نسبة الوطنية الفلسطينية إلى «الإرهاب») أو على مضض، عندما كانت سطوة واشنطن وقدرتها على الضغط والإرغام على أشدهما.

والحقيقة أن المقاربة تلك كانت مختلة من أساسها، وممتنعة التحقيق تاليا. فتصوّر عالم ما بعد الحرب الباردة، وما بعد الحادي عشر من سبتمبر تحديدا، على أنه مجال مواجهة بين «قوى الإرهاب» من جهة وقوى «خير» أو «سلام» أو «تقدم» من جهة أخرى، إنما قام على افتعال وعلى تعسّف، لأنه بادر إلى إلغاء السياسة وإلى إبطالها، وعلى إحلال معيار أخلاقي، أو يزعم الأخلاقية، محلّه، وهو إلى ذلك معيار ذاتي المرجعيّة، أي لا يعود إلى قيَم معلومة أو مجمَع عليها، بل إلى تلك التي تنفرد الولايات المتحدة بتعريفها وبإملائها وبادعاء تجسيدها.

وقد آل ذلك إلى السعي إلى ابتداع نصاب دولي غريب غير مسبوق، لا يقوم على دول-أقطاب، تتصارع وفق خطوط انقسام قوامها السياسية ومحدِّداتها، شأن ما كانت عليه الحال إبان الحرب الباردة واستقطابها الثنائي، السوفييتي-الأميركي، أو قبل ذلك أيام التنافس بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية، على سبيل المثال لا الحصر، بل إن ذلك النصاب حدد العدوّ في طرف (نعني «تنظيم القاعدة») لا يمثل قوّة، رغم قدرته الكبيرة على الإيذاء، بل بوصفه تجسيدا للشين المطلق، تندرج أفعاله في عداد الإجرام الصرف، وتقاس عليه سائر القوى المعادية وتُماهى به.

المنطق الضمني وراء هذه المقاربة، أن الولايات المتحدة اعتبرت أن انتصارها في الحرب الباردة كاسح مبرم، أي أنها انفردت بالقوة، لا ينازعها فيها أحد، إلى أمد طويل. روسيا انهارت والصين كانت تبدو منصرفة إلى التنمية الاقتصادية منكفئة عن الاضطلاع بدور دولي في ما يتعدى مجالها الإقليمي، وأوروبا قزم سياسي وإن كانت عملاقا اقتصاديا، بحيث استتب الأمر الكوني للولايات المتحدة، وكفّ الاعتراض عليها عن أن يكون اعتراضا كي يصبح فعل إجرام محض، يقترفه «مارقون» و«أشرار»، مثالهم المعياري هو تنظيم القاعدة، لا دول وأطراف، تصدر عن مصالح أو عن رؤية مغايرة، لا يحول العداء دون اكتسابها الشرعية بصفتها تلك.

لكن انفراد أميركا بالقوة كان وجيزا في نهاية المطاف. فشلها العسكري في العراق وسواها ارتد عليها تراجعا، وبدا العالم آيلا، على نحو حثيث، إلى تعددية قطبية بعد أن تزايد وزن الصين وتأكد سعيها إلى ترجمة عنفوانها الاقتصادي إلى نفوذ سياسي، وبعد استعادة روسيا بعض عافيتها، إلى عوامل أخرى كثيرة.

وبديهي أن عالما هذه مواصفاته، ما عاد يستوفيه ويعبر عنه خط الانقسام الذي أرادت واشنطن فرضه، بين قوى «إرهاب» و«مروق»، وقوى «خير» و«صواب»، وذلك ما يبدو أن جورج بوش سينصرف من البيت الأبيض دون أن يكون قد فهمه وأدركه.

* كاتب تونسي