الفتنة المرّة

نشر في 24-07-2008
آخر تحديث 24-07-2008 | 00:00
No Image Caption
 فوزي كريم أقرأ وأتصفّح رسائل الموسيقي غوستاف مالر إلى زوجته آلما. كتاب حرره ثلاثة من الدارسين. فيه نرى جانباً واحداً من جوانب الموسيقي النمساوي الكبير غوستاف مالر (1860-1911)، لا يقل تراجيدية عن جوانب حياته الأخرى، ولا يقل تساميا إبداعياً أيضاً. لأن الجانب التراجيدي عميق التداخلِ مع الجانبِ الخلاق في حياته كلِّها. هذا الجانب يتصل بطبيعة علاقته مع زوجته آلما، التي كانت تصغره سناً بعشرين عاماً.

كان غوستاف مالر ابن مدينة فيينا، المنبر الحاسم في تقييم موهبته الموسيقية. ولكن فيينا كانت تُنكر عليه ثلاثة عناصر في كينونته: ذيوع صيته، يهوديته، وحداثته.

عانى كثيراً من حصار المحيط على يهوديته، حتى غيّر مُعتقده إلى الكاثوليكية، دون طائل. ثم كان قائد أوركسترا بارعاً، ولكن لم يوفق داخل عالم المنافسات الموسيقية. ثم إن مشروعه كمؤلف موسيقي صار يطمحُ إلى مشارف جديدة ضاق بها التقليديون. وفي أول شروعه المتحمس رصد الأطباء مرضه القلبي، الذي صار مركز قلقه، ثم سوداويته التي غلّفت كلَّ موسيقاه. ثم حلّت لعنةُ تجربته القاسية مع زوجته الشابة، التي كان يزداد لها حبا بقدر ما تزداد هي غواية، في بحبوحة الحياة الفيناوية المترفة.

كان كثيرَ الأسفار بفعل كونه قائدا للأوركسترا. وكان يكتب رسالة أو كارتاً لآلما كل يوم من أيام أسفاره، وحتى في إقامته كان كثير الاعتزال مع موسيقاه، ولا يتوقف عن الكتابة إليها من داخلِ كوخه الذي ابتناه في آخر حديقة بيته. حرصٌ على التواصل لا ينبئ بطمأنينة بالتأكيد.

في عام 1902 تزوج مالر (41 عاماً) آلما شيندلر (21 عاماً). شابةٌ فاتنة، ولها محاولات في تأليف الأغنية الكلاسيكية، ولكن بمسعى أقل من المسعى الذي كانت تبذله من أجل المتعة بغزل الرجال، المحيط بها من كلّ جانب. ولقد كان الرسام التعبيري الشهير كوكوشكا أبرز المتغزّلين. رسائل مالر في هذا الكتاب تتلون ما بين التهيام والوله وبين التضرع والتوسل. لأنه كان يشعر ببخل الاستجابة من الزوجة الشابة. في يوميات آلما، التي تُرجمت إلى الإنكليزية قبل خمس سنوات، تعبر في أكثر من مكان عن مشاعر الاشمئزاز من زوجها الموسيقي. «كان يُفسدُ مباهج حياتي ويجعلها شيئاً بغيضاً: النقود، هراء. الملابس، هراء. الجمال، هراء. السفر، هراء! الروحُ وحدها التي يحسب لها حساب. وأنا أعرف اليوم أنه كان يخشى شبابي وجمالي. كان يريدهما حكراً لنفسه...».

ولكن مالر المندحر أمام المجتمع المحيط، وأمام علة الجسد المرضية، وأمام القدر المناوئ، وأمام الزوجة غير الوفية، كان في بُحران موسيقاه دائمَ الانتصار في الكشف عن المزيد من مجاهلِ الإنسان وكونه الواسع. كان يريد سيمفونيةً بشمولِ واتساعِ الكون. ولقد قارب ذلك في سيمفونياته التسع وفي العاشرة التي تركها ناقصة عند موته.

كانت آلما لا تميل الى موسيقاه، بل تخشاها: «إنها تشعرني بالبرد» تقول. ولكنها انحنت لشرطه في الزواج بأن تتخلى عن محاولاتها في التأليف الموسيقي: في واحدة من رسائله عام 1901: «من الآن فصاعداً ليس لك من مهمةٍ غير مهمة توفير السعادة لي. عليك الاستسلام لي كليا دون قيد أو شرط...». هذا القرار لم تأخذه بجدية بالتأكيد، ولكنها عانت منه لحد الإنهاك العصبي. ولقد وضح ذلك على امتداد كتاب الرسائل المتبادلة هذا.

لم يكتب مالر طوال حياته غير موسيقاه، ورسائله لزوجته آلما. عبر الموسيقى صار لنا أن نتفحص بعمق مشاعره الخاصة تجاه نفسه، واتجاه الموسيقيين الذين أعجب بهم، مثل بيتهوفن وفاغنر وباخ، ولكن آراءه الموسيقية لا نكتشفها إلا عبر رسائله الخاصة هذه، وهي عادة ما تكون آراء حادة وقاسية، حتى بالنسبة الى الذين كان يحب موسيقاهم في الظاهر، مثل برامز وبوتشيني وبروخنر.

back to top