عودة الإرهاب وطالبان: تهديدات وجودية مقلقة

نشر في 04-05-2009
آخر تحديث 04-05-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري عاد الإرهاب من جديد ليضرب العراق بصورة أكثر دموية وأشد وحشية، تصاعدت أعمال العنف الإجرامية لتحصد المزيد من أرواح المواطنين الأبرياء في بغداد والعديد من المدن العراقية، وبلغت حصيلة العمليات الإجرامية في شهر (إبريل) وحده، (250) قتيلاً و(650) جريحاً، إنه إرهاب وحشي أعمى لا دين له ولا جنسية يستهدف الجميع من غير تمييز، ولا يبالي بحرمة أو قدسية مكان أو زمان، يفجر في المطعم والمستشفى والمسجد، ويعمد إلى تجمعات الزوار الذين جاؤوا للمزارات الدينية وغيرها.

لقد انتعشت الآمال بعد التحسن الأمني الذي تحقق في العراق، بفضل ثورة أبناء (الصحوات) العراقية وجهود القوات العراقية ودعم قوات التحالف وكفاءة الحكومة العراقية، وظننا أن الإرهاب قد ولى إلى غير رجعة، واستبشرنا بعودة ليالي بغداد الساهرة ونشاط أسواقها العامرة وخروج العوائل العراقية للتسوق والتنزه في حرية وأمان، وما كان ذلك ليتحقق لولا نجاح الحكومة العراقية في تحقيق إنجازات ملموسة، سواء على الصعيد الأمني في اختراق «القاعدة» والوصول إلى أميرها، أو على الصعيد السياسي في تحقيق المصالحة السياسية أو على الصعيد العربي في طمأنة العرب وتهدئة مخاوفهم بالنسبة لمستقبل العراق ووحدة كيانه وفي عودة السفراء العرب، ولكن ها هي مخلفات الإرهاب الوبائي وبقاياه تنبعث من جديد لتهز الاستقرار وتروع الآمنين وتنفذ المجازر الوحشية بشكل جنوني.

إذ يلبس أحدهم حزاماً ناسفاً ويدخل مطعماً شعبياً مكتظاً بأناس بسطاء، شاء حظهم العاثر أن يكونوا في هذا المطعم البائس، يفجر نفسه فيهم ليتطايروا أشلاء، أوتندس امرأة- مأزومة- تلبس حزاماً ناسفاً وسط تجمع لعائلات فقيرة جاءت لأخذ معونات غذائية فتفجر نفسها وتحصد أرواحهن، هذه الأرواح البريئة التي زهقت، وهؤلاء الضحايا الذين تساقطوا من غير أي ذنب، على يد تلك العصابات الإجرامية ما كانت لتحصل وتعود من جديد لولا مضللين مازالوا يعتقدون أن ما يحصل في الساحة العراقية وفي بعض الدول العربية من أعمال إرهابية هو (جهاد) و(مقاومة)!!

وأما المشهد في باكستان فالوضع فيه أكثر قلقاً وتوتراً، فبعد سيطرة طالبان الباكستانية على منطقة (وادي سوات) في صيف 2007 التي كانت من أهم المعالم السياحية في شمال غرب باكستان وتدميرها لمدارس البنات وقطعها رأس كل معارض، وفرضها تعاليم طالبان المتشددة في إحراق دور السينما والعشرات من متاجر الأدوات الموسيقية، والحكم بالجلد والرجم وقطع اليد وتصفية الخصوم المعارضين، اضطر الرئيس الباكستاني (زرداري) إلى الرضوخ لمطالب طالبان، ووقع اتفاقية (وادي سوات) بإنشاء محاكم إسلامية تطبق الشريعة بحسب مفهوم طالبان المتشدد، بعد أن صادقت الجمعية الوطنية بأغلبية واسعة عليها، ولكن طالبان لم تسلم أسلحتها وخدعت الحكومة الباكستانية فاقتحم مسلحوها المدينة المجاورة (بونير) التي تبعد 60 ميلاً فقط عن العاصمة، وسيطروا على المباني الرسمية، وأقاموا حواجز على الطرقات وأشاعوا جواً من الذعر بين الأهالي، وعمدوا إلى حلق روؤس الشباب الذين كانوا يستمعون إلى الموسيقى، وفرضوا على النساء أن يكن سجينات في بيوتهن، وأقاموا حكومة موازية ومحاكم خاصة، وفرضوا ضرائب على الأهالي، وتحت ضغط دولي وخوف وهلع من الأهالي الذين باتوا ينتظرون الزحف الوشيك لجحافل طالبان على العاصمة، تحرك الجيش الباكستاني ليدك مواقع طالبان ويؤكد استعادة كبرى مدن منطقة (بونير) وليوقف الزحف الخطر إلى حين.

دعونا نتساءل: ما العوامل التي ساعدت على عودة الإرهاب من جديد إلى العراق؟! ولماذا قويت حركة طالبان وأصبحت أكثر ثقة وقدرة على تحدي الحكومة الباكستانية ومد نفوذها وسيطرتها إلى خارج المناطق القبلية التي تحت حكمها؟! أتصور أن هناك جملة من التطورات الحاصلة على الساحتين الدولية والمحلية، لعل من أبرزها:

أولاً: أن هذه الحركات المسلحة والمتشددة دينياً والدول المناهضة للسياسة الأميركية في المنطقة، تعتقد أن الحكومة الأميركية في ظل الرئيس (أوباما) في أضعف حالاتها، وتبني تصوراتها على أن الشعب الأميركي ما صوت للرئيس الحالي وبأغلبية إلا لأن الأميركيين سئموا وملوا وتعبوا من سياسة إدراة بوش القائمة على الضربات الاستباقية ومطاردة العدو في عقر داره، ولذلك اختاروا أوباما الذي تبنى سياسة الحوار والتفاوض، تعتقد هذه الجماعات والدول أن أميركا في طور التراجع والانكفاء على ذاتها والانشغال بقضاياها الدخلية في ظل الأزمة المالية، وهي غير معنية بقضايا العالم إلا بمقدار تأثيرها على مصالحا وتهديدها لأمنها، وأن الأميركيين اليوم لا يرغبون في بذل المزيد من دماء أبنائهم في سبيل تخليص شعوب العالم الثالث من الدكتاتورية والإرهاب، ومصداقاً لهذا التوجه وصف الرئيس الإيراني نجاد دعوة الغرب (مجموعة 5+1) لإيران للتفاوض بأنها تمثل موقف الضعف.

ثانياً: إن سياسة الإدارة الأميركية الجديدة للتفاوض مع طالبان أدت إلى تقويتها وساهمت في رفع شعبيتها واتساع نفوذها.

ثالثاً: إن سياسة الحكومة الباكستانية في استرضاء طالبان عبر تقديم سلسلة من التنازلات، تمثل استسلاما لها وقد أدت إلى إضعاف معنويات أهالي المناطق التي تقاوم طالبان بسبب اعتقادهم بتخلي الجيش عنهم، في حين ترى طالبان في ذلك انتصاراً لها، بدليل أن إمام المسجد الأحمر الموالي لطالبان والذي أطلق سراحه أخيراً، سارع في أول خطبة جمعة في المسجد الأحمر إلى تحريض أتباعه ببذل المزيد من التضحيات حتى تعم الشريعة باكستان، وأما اتفاقية وادي سوات فقد استغلتها طالبان لإعادة تنظيم صفوفها وكسب المزيد من الأنصار والتنسيق مع خلاياها النائمة في المناطق التي تريد الاستيلاء عليها.

رابعاً: الثقافة السياسية الشعبية لقطاع من الرأي العام المضلل بتأثير الوعي الإعلامي المزيف في بعض المجتمعات التي ترى في مواجهة الجماعات المتشددة، خدمة للأجندة الأميركية، ولذلك تعارض جهودها في مكافحة المتطرفين بل تؤثر على معنويات جيشها، هذه الثقافة المضللة هي من عوامل عودة قوى التطرف.

ختاماً: لقد أثبتت كل التجارب السياسة المعاصرة أن استرضاء الجماعات المتشددة سياسة خطرة يدفع أكلافها الباهظة، المجتمع كله من أمنه واستقراره وتقدمه، وليس لها إلا نتيجة واحدة هي زيادة تصلب تلك الجماعات ووحشيتها، لقد بلغ الإجرام أن يندس الانتحاري بين المصلين في أحد مساجد باكستان ليفجر نفسه فيهم ولا يتعرف ذووهم عليهم إلا من خلال أحذيتهم ونعالهم.

إن هذه الجماعات تعتقد أنها تملك الحقيقة المطلقة، ولذلك لا يمكن أن تتخلى عن العنف لأنه جزء من بنيتها العقدية والثقافية، كما أن السلاح عندها يكتسب صفة القدسية ولذلك لا يمكن أن تتخلى عنه مهما كانت التنازلات، ونحن نعلم أن طالبان وبقوة هذا السلاح تهيمن على تجارة الخشخاش كمصدر تمويل يصل إلى 300 مليون دولار سنوياً، ولا حل أمام الحكومات التي تواجه تلك الجماعات إلا وقف التفاوض وإعلان الحرب الشاملة ودعم الجيش شعبياً وسياسياً ومالياً إذا أرادت إنقاذ مستقبل بلادها، ويبقى على المجتمع الدولي المسارعة لتقديم المزيد من الدعم المالي والعسكري لباكستان وإلا فقل على باكستان السلام.

* كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top