Ad

المنفعة ليست موضع اتهام إلا إذا لم تتوافر فيها شروطها، ويسرع في الحكم من يظن أن المنفعة هي بالضرورة الأنانية كما يروج لها المثاليون السذج وأصحاب ما ينبغي أن يكون ضد ما هو كائن.

يظن الناس خطأ أن المنفعة ضد الدين، وأنها مرتبطة بالمادية والأنانية والطمع في الدنيا. وهذا غير صحيح. فقد ميز الفلاسفة بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. الأولى أقرب إلى الأثرة، والثانية أقرب إلى الإيثار. الأولى في حالة إعطائها الأولوية على الثانية رذيلة، والثانية في حالة إعطائها الأولوية على الأولى فضيلة.

وقد ذكر لفظ «المنفعة» ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي خمسين مرة، فهو موضوع رئيسى، وتدور كل الآيات حول ثلاثة محاور: أن المنفعة أساس الدين، وأنها مقياس صحة الإيمان، وأن الدين هو الحفاظ على منافع للناس في حياتهم وفي دنياهم، ويتجلى المحور الأول في سبعة معان:

1- المنفعة أساس الدين، وكل إيمان ينفع صاحبه، وكل إيمان لا ينفع ليس إيمانا، «فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ». والإيمان في الدنيا قبل الآخرة حتى يمكن الانتفاع به. إذ لا ينفع إيمان بعد انقضاء الزمن ونهاية العمر وفوات الأوان، «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسا إِيمَانُهَا». ولا ينفع إيمان في الآخرة بعد كفر في الدنيا، «قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ». ولا ينفع الإيمان السطحي القائم على الخوف، «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأوْا بَأسَنَا». بل الإيمان عن صدق واقتناع وتجربة.

2- والذكرى للنفع «فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى». الذكرى نافعة إذا ما غاب الإيمان وتوارى أمام أهواء البشر، «وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ». ولا يوجد ضمان للذكرى. فقد يكون القلب قاسيا، والمصلحة طاغية، والبصيرة عمياء، «وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى». وقد لا يفيد النصح كما لا تفيد الذكرى، «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ».

3- ولا تنفع الشفاعة إلا بإذن الله وقبل التوبة، «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً». فلا شفاعة إلا بعد حسن النية وطيب القول. ولا تنفع الشفاعة مع الإصرار على الذنوب واستمرار المعاصي، «وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ». لا تنفع شفاعة الشافعين لمن لا يستحقون الشفاعة، «فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ». فالشفاعة ليست ضد الاستحقاق بل الاستحقاق شرطها.

4- ولا ينفع الظلم في الدنيا ولا في الآخرة، فالظلم سلب الناس حقوقهم والاستيلاء عليها بغير وجه حق، «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ». يرفع الظلم عن المظلومين أولا في الدنيا حتى ينفع الاعتذار والعتاب في الآخرة، «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ». فالظلم لا عذر له، وبالتالي لا عفو عنه، وينال الظالم جزاءه، «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ». فالدنيا أساس الآخرة، والعمل في الدنيا معيار الجزاء في الآخرة، مقدمة ونتيجة، علة ومعلول، سبب ومسبّب.

5- والصدق في الدنيا نافع في الآخرة، «قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ». فالصدق تطابق المقدمات مع النتائج، والأقوال مع الأفعال، بعيدا عن النفاق وازدواجية الشخصية، والصدق هو تطابق الإنسان مع ذاته تأكيدا لوحدة شخصيته وتصديق الناس له.

6- والموت حق، ولا ينفع الفرار منه، «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ». المنفعة عمل عاقل وليست خوفا من الضروري، والمنفعة ثقة بالنفس وثبات ويقين وليست هروبا من الواقع، المنفعة مواجهة وقبول ورفض، تحدى واستجابة، تقدم وتقهقر، سبق واستباق.

7- ولا ينفع مال ولا بنون في الآخرة، «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ». فالمسؤولية فردية والجزاء فردي، ولا ينفع الأولاد ولا الأقارب لأن الأفعال فردية ونتائجها على من يقوم بها، «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». ويستوي الآباء والأبناء في عدم نفعهم في الآخرة، «آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعا». فالأب ابن لأبيه كما أن الابن ابن لأبيه. الأولاد ذوو نفع في الدنيا وليس في الآخرة، لذلك استبقى فرعون موسى الطفل لعله ينفعه في ملكه، «أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدا». ولم يأمر بقتله بالرغم من نبوءة ضرورة التخلص من كل الأطفال حفاظا على ملكه من الانقلاب عليه، «لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا».

المنفعة إذن شيء إيجابي بهذه المعاني السبعة، ليست موضع اتهام إلا إذا لم تتوافر فيها شروطها، ويسرع في الحكم من يظن أن المنفعة هي بالضرورة الأنانية كما يروج لها المثاليون السذج وأصحاب ما ينبغي أن يكون ضد ما هو كائن. النافع هو الذي يمكث في الأرض، وما دونه يذهب جفاء، «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ».

* كاتب ومفكر مصري