لا نحتفي بذكرى مارتن لوثر كنغ هذا العام، فقط لنعزز الأمل بأن الأحلام العادلة قابلة للتحقق وإن طال الزمن. قبل ذلك، هو يجب أن يحضر بيننا الآن وفي هذه اللحظات، حيث نحن محاطون بصور بقايا مدينة وآلاف الأحلام التي استحالت رمادا، وحيث نرى العالم أعجز من أي وقت مضى على استحضار واستخدام ما راكمه خلال قرون، من مبادئ وقوانين تحمي النفس البشرية من موت لم يكن محتما ولا مفر منه على الإطلاق، وحيث نرى جرائم حرب ارتكبت يوما إثر آخر، مراكمة فضلا عن الجثث وحطام البيوت، أحقادا تحتاج مطرا أبديا لغسلها. الذكرى هذا العام ومثيلاتها في دول أخرى، يجب أن تؤرق المعتدين قبل أن تلهم الضحايا.
رائد حركة الحقوق المدنية الأميركي نفسه، قتل برصاص العنصرية بعد أن تعرض لعدة محاولات اغتيال، وبعد أربعين عاما على رحيله القسري، يعود هذا العام متصدرا عناوين الصحف وشاشات التلفزيون، وكأنه هو من انتخب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، وليس باراك أوباما مبعوثه الشخصي إلى الأرض.القس كنغ لم يكن قديسا ينشر تعاليم المحبة واللاعنف بين أتباعه، بل كان مناضلا على الأرض وبين الآلاف ممن استطاع وآخرين دفعهم لإعلان رفضهم استمرار الظلم اللاحق بهم، ومجابهة التمييز العنصري وإعلان انتهاء زمن العبودية. هذا النضال اقتضى تدريبا وتخطيطا وعملا دؤوبا، وقد تراوح في أشكاله العديدة من المقاطعة الاقتصادية إلى المظاهرات السلمية إلى ممارسة الحق بدل المطالبة به، من قبيل دخول مجموعات صغيرة من الشبان إلى مطاعم ومقاهٍ ومكتباتٍ تطبق الفصل العنصري، وحلول مجموعة جديدة محلهم متى جرى اعتقال الأولى والتنكيل بها. وهو لم يكن حزبا أو تنظيما ينغلق على أعضائه بقدر ما كان رسالة عدالة وكرامة موجهة إلى الإنسان الأميركي بشكل عام، وهذا كان رهان كنغ بشكل أساسي، منبها دائما إلى ضرورة السيطرة على الغضب وكبح رود الفعل العنيفة تجاه العنف الوحشي الذي كانوا يتعرضون له في معرض نضالهم السلمي.«الكراهية تولد الكراهية، العنف يولد العنف، الفظاظة تسبِّب فظاظة أكبر... علينا أن نقابل قوى الكراهية بقدرة المحبة، غايتنا ينبغي ألا تكون أبداً هزيمة الرجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب صداقته وتفهّمه... وإبان الفوز بمكانتنا المشروعة، يجب ألا نرتكب أفعالا جائرة، ولا نسعى إلى ري تعطشنا إلى الحرية بالشرب من كأس المرارة والكراهية»، وفي ظل مثل هذا الخطاب، كان هنالك ولايزال، عنصريون في أميركا، يرون في مارتن لوثر كنغ «وحشا ارتدى زي قديس»! لكن حتى هؤلاء، لا يستطيعون تبرير موقفهم تجاهه إلا بعنصريتهم وحدها. كنغ لم يكن مجرد حالم منفصل عن واقعه، كان يدرك تماما ما تجذر في مجتمعه من عنصرية قبيحة لم تتورع حتى عن القتل للتعبير عن قبحها. ويقال إنه عندما سمع نبأ اغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي، قال لزوجته بأنه سيلاقي المصير نفسه «لأن مجتمعنا مجتمع مريض»، لكن ذلك لم يفقده الثقة بإمكانية النجاح، مستخدما جميع إمكاناته وشخصيته الكارزمية، ومستعينا أحيانا بخطاب ديني مسيحي يشحذ الإيمان ويكرس معاني المحبة والسلام. وعندما بدأت الحرب الأميركية في الفيتنام، وقف بشجاعة ضد هذه الحرب التي وصفها باللاأخلاقية، مؤكدا أن رسالته للعدالة والسلام لا تقتصر على شعبه وأن حياة الضحايا الآخرين ليست أقل قيمة من حياة شعبه.من سخرية القدر أن الشخص الذي نحتفي اليوم بنضاله السلمي وما حققته الحركة التي قادها إلى جانب آخرين كرسوا أنفسهم لقضية العدالة والمساواة، أن يكون ذلك في البلد الذي مارس ودعم عنفا غير مسبوق خلال السنوات القليلة الماضية ضد شعوب أخرى، لكن احتفاء معظم الأميركيين بالرئيس الجديد أوباما، واستحضار كنغ في الإعلام والذاكرة بهذه المناسبة، تبرهن أن رسالة كنغ قد توارت حينا لكنها لاتزال حاضرة في نفوس الكثيرين.هذا لا يكفي بالتأكيد، لكن كنغ ومعه الآلاف، لم يطلبوا من الآخرين حمل قضيتهم والدفاع عنها، فهم رسموا طريقا ثالثا ينبذ الخذلان والاستسلام بالقدر نفسه الذي ينبذ فيه العنف ولغة الرصاص، وكانوا بالتأكيد مستعدين للتضحية ودفعوا بالفعل أثمانا باهظة، لكن ضمن استراتيجية عمل واضحة تعرف إلى أين المسير. «أقول لكم اليوم أصدقائي، إنني على الرغم من مصاعب اللحظة وإحباطاتها، لايزال لدي حلم». * كاتبة سورية
مقالات
أحلامنا قابلة للتحقّق أيضاً
22-01-2009