مُفترقُ الموهبة المحيّر
الموهبة المبكرة، والفائقة للعادة تختلف بالتأكيد عن الموهبة التي تنضج مع الزمن، وتعطي ثمارها في وقت متأخر، أعرف عينات من الأولى وأخرى من الثانية، ولكن إدراك الخصائص المعقدة لكلا النوعين احتاجَ مني زمناً، ومازال، لمعرفة إلى أيهما أنتسب. وإلى أيهما ينتسب فلان وفلان من الشعراء والروائيين والرسامين.
كنت طالباً متواضع الذكاء. أحاكي الأقدمين بلغة احتاجت سنوات الصبا كلها لكي تتطهر من لوثة الزخرف اللفظي، في الجامعة لم أكن طالباً متفوقاً، ولقد اخترت دراسة العربية بدافع الكسل وحده. بدأت كتابة الشعر التقليدي على خُطى الجواهري، ومع الشعر الحديث بدأت في محاكاة السياب، ولم أكتشف صوتي الخاص إلا في العشرين، والسنواتُ الطويلةُ التي امتدّت بعدها لم تكن غيرَ محاولات أمينة لتنقية ذلك الصوت من الشوائب، مع كثير من التردد، وكثير من الشك. أعرف شعراء يتحدثون عن نشرهم الشعر منذ الصبا المبكر، وعن تفوق في الدراسة لم يهِنْ أو يضعف حتى سنة التخرج الجامعي، وعن إتقانهم لغات عدة في سنوات محدودة. هذه المعرفةُ، في سنوات النضج، منحتني دليلاً هادياً لمعرفة أن الاختلافَ بين هاتين الموهبتين كامنٌ في الزمان: الأولُ يمنح أحسن ما لديه في مرحلة مبكرة، والآخر في مرحلة متأخرة. ولكني أتلمس اختلافات عديدة أخرى، أكثرَ خفاءً. ولكنها تظلُّ موضعَ خلاف بين زوايا النظر. في كتابِ الأميركي ديفيد غالنسون «أساتذة كبار وعباقرة شبان: دورتا حياة للإبداع الفني» أكثر من إضاءة، وأكثر من إجابةٍ شافية، لقد استعرضَ قرابةَ خمسين كتاباً من كتب المختارات الشعرية، صدرت منذ 1980، وأفردَ القصائدَ التي نُشرت مراتٍ عديدة بسبب إقبالِ الناس على قراءتها، فكانت إحدى عشرةَ قصيدة. من «أُغنية بروفروك» لأليوت، حتى «الرقص» لكارلوس وليَمس. وتبين أن عدداً منها كُتب بعد الأربعين والخمسين. وأن القصيدةَ الغنائية، بالتالي، لم تقتصر على الموهبة الشعرية في شبابها، كما هو شائع. الأمرُ لا يختلفُ في السينما، فإذا كان أورسُن ويلز مُدهشاً في عمر الخامسة والعشرين حين قدم فيلمه «المواطن كين»، فإن هيتشكوك أكثر إدهاشاً في أفلامه التي قدمها بعد عمر الخامسة والخمسين. ولكن غالنسون كما يبدو أقربُ إلى عالمِ الفن منه إلى الأدبِ والسينما. ولذا يجعل من حكاية الاسباني بيكاسو والفرنسي سيزان محورَ معالجته. بيكاسو بدأ مبكراً بالعطاء الفائق للعادة، وسيزان أعطاه في نهاية مسيرته الفنية، ولكن المؤلف بعملية حسابية بسيطة يرى أن أسعارَ لوحات بيكاسو التي وضعها في عشرينياته، تعادلُ مراتٍ أربع أسعارَ اللوحاتِ التي وضعها في ستينياته. في حين تنقلب المعادلةُ مع سيزان، فلوحاتُ العمرِ المتأخرِ تعادلُ خمسَ عشرة مرة أسعارَ اللوحات الشابة. إن طراوةَ الشباب الممتلئ بالحماسة والطاقة لا تتناسب مع سيزان. الموهبةُ الفائقة، كما يبدو، نادراً ما تنشغلُ بالاستكشاف المُشرع على اللانهاية، إنها، كما يرى المؤلف، «مفاهيمية»، تبدأ من فكرة واضحة عن الهدف التي تسعى إليه، ثم سرعان ما تُنجزُه، يقول بيكاسو «من الصعب أن أُدركَ الأهميةَ التي تُعطى لعملية البحث، الذي لا يعني شيئاً في الرسم، المهم أن تقعَ على الشيء، يجب أنْ لا تُفهم الأساليبُ المختلفة التي أستخدمُها باعتبارها خطواتِ نموٍ باتجاه النموذج المثالي المجهول في الفن... فأنا لم أقم بمحاولات اختبار وتجريب مطلقاً». ولكن الموهبة التي تتفتح مع النضج تبدو طريقُها اختبارية بالمقابل. «أهدافُها غير دقيقة، ولذا فأسلوبها تجريبي تدرُّجي»، تعاود رسم موضوعها مرات عدة، وفي كلِّ مرةٍ تُغير من طرق معالجتها بتدرّج، كلُّ عملٍ يقودُ لآخر، وما من أفضلية. ولذا من النادر أن تلجأ إلى عمل سكيتشات تمهيدية، إنها تؤمن بأن التعلم هو هدفٌ أكثر أهمية من عمل لوحة مكتملة، وأنَّ مسارَها الإبداعي بناءٌ تدريجيٌّ لموهبتها التي قد لا تصل إلى هدف، وقد تُبتلى بسبب ذلك بالإحباط. واضحٌ أن السوقَ التي تميلُ إلى الربح السريع تنتصرُ للأولى لا الثانية!