مذكرات فؤاد بطرس أحداث زحلة تحولت إلى قضية دولية...والمسيحيون علقوا أوهاماً على التدويل السعوديون دعوا إلى اجتماع في الرياض بعد معلومات عن مؤامرة ضد سعود الفيصل في بيروت خدام استاء من شفيق الوزان لأنه وافق على برمجة انسحاب قوات الردع السورية الحلقة الحادية عشرة

نشر في 26-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 26-08-2008 | 00:00
بما أن الافتراض لا يجوز كثيراً في التاريخ، لن أسترسل في الإجابة عن سؤال عما إذا كانت حظوظ نجاح عهد الرئيس إلياس سركيس أكبر لو أنه تعاون مع الرئيس شفيق الوزان منذ البداية. غير أنني أجد لزاماً عليّ الإقرار بأني طرحت هذا السؤال على نفسي عشرات المرات خلال السنتين اللتين عاشتهما الحكومة وبعد انسحابي من الممارسة السياسية في تشرين الأول (أكتوبر) من سنة 1982. ولايزال كثيرون ممن لعبوا أدواراً في تلك الحقبة، وعملوا بإخلاص في سبيل إعادة بناء الدولة بعد حرب السنتين، يتساءلون عن الأمر نفسه. ولا عجب في ذلك لأن الرئيس شفيق الوزان كان يتمتع بمرونة بارزة مكنته من تجاوز الكثير من المطبات من غير أن يضطر في معظم الأحيان إلى المساومة على مبدأ قيام الدولة وبسط سلطتها على كامل التراب الوطني. وكان يظهر حرصه على السيادة وهيبة الدولة خصوصاً في المنعطفات المهمة التي كانت نتائجها المرجوة تستحق المغامرة.

على رغم انسداد الأفق في تلك المرحلة، لم نفقد الأمل، وبقينا نسعى إلى حفر الجبل بالإبرة بغية التوصل إلى حل شامل للمسألة اللبنانية، إلى جانب مساعينا إلى احتواء الأزمات الناشئة بفعل نتائج اتفاق الصلح بين مصر وإسرائيل وبفعل رهانات معظم القوى اللبنانية على حلفاء خارجيين لم يكونوا ساعين إلا إلى تحقيق مصالحهم وفي الغالب على حساب لبنان.

أحداث زحلة وأزمة الصواريخ

اعتباراً من النصف الثاني من آذار (مارس) 1981، وقعت اشتباكات عنيفة على خطوط التماس في السوديكو والأسواق التجارية. وفي الحادي والثلاثين من الشهر نفسه، انفجر الوضع مجدداً في زحلة بعد هدوء استمر نحو ثلاثة أشهر، وجرت مواجهات بين القوات اللبنانية والقوات السورية، وما لبثت أن تدهورت الأحوال بشكل خطير في الأول من نيسان (أبريل). وفي الثاني منه بلغ التصعيد الذروة، بعدما بدأ دك زحلة المحاصرة بالمدفعية السورية ذات العيار الثقيل التي أطلقت حممها، بصورة مفاجئة على الأحياء السكنية في المنطقة الشرقية أيضاً.

ومع استمرار المواجهات والاشتباكات الدامية ومحاصرة زحلة، تحركت الدبلوماسية الغربية، وعقدت في تلك الفترة اجتماعات شبه يومية مع السفير الأميركي جون غونتر دين في القصر الجمهوري حيث أقمت طوال مدة الأزمة. وقد فهمت منه أن إسرائيل سعت إلى أن تحصل على ضوء أخضر من وزير الخارجية الأميركية ألكسندر هيغ الذي كان يزورها في تلك الأثناء في إطار جولة شرق أوسطية، للتدخل عسكرياً في لبنان إلى جانب القوات اللبنانية. وفي خلال يومين، زار القصر الجمهوري الأمين العام المساعد للأمم المتحدة بريان أوركهارت الذي انتقد أمامنا سياسة الولايات المتحدة، مؤكداً أنها لن تسمح لإسرائيل بالتدخل في المعركة الدائرة، ومساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط موريس درايبر حاملاً رسالة من الوزير ألكسندر هيغ تندرج أيضاً في خانة منع إسرائيل من التدخل.

(...) عقدت اجتماعاً ثانياً مع أوركهارت في بعبدا بحضور غسان تويني الذي كان في بيروت والأمين العام في الخارجية كسروان لبكي. وفيه كشف لنا مساعد الأمين العام للأمم المتحدة عن الانطباع الذي تكون لديه بعد اجتماعه ببشير الجميل وأركانه قائلاً: «ما صدمني هو أن أفق هؤلاء الناس ضيق جداً، كأنهم لا يقدرون عواقب ما يقومون به، هذا خطير للغاية. قلت لبشير عليكم أن تنظروا إلى عاقبة أعمالكم. في الواقع، إنهم لا يرون شيئاً ويتوقعون أن تتدخل إسرائيل لمصلحتهم». ونقل أوركهارت عن الرئيس كميل شمعون قوله: «إن الأمم المتحدة قد تخلت عنا» لافتاً إلى أنه راغب في التوصل إلى اتفاق سياسي لوقف الحرب في زحلة لعلمه بأنه لا يمكن الحصول على شيء من حرب مع السوريين.

رد أميركي مبهم

وفجر الخامس والعشرين من نيسان (أبريل) شن السوريون هجوماً على صنين والجبال المحيطة ببسكنتا واحتلوا نقطة استراتيجية تعرف «بالغرفة الفرنسية»، فاضطربت القوات اللبنانية جدا، وخاف الرأي العام المسيحي واعتبر هذا الهجوم مقدمة للقضاء على المنطقة المسيحية. وسط هذه المعطيات الخطيرة ترددت في شأن قيامي بزيارة دمشق في اليوم التالي، وطلبت من جوني عبدو أن يتصل ببشير الجميل لألتقي به قبل الزيارة، فلبى قائد القوات اللبنانية وحضر إلى منزلي في اليوم نفسه، وقد بدا عليه الاضطراب. وقال لي بشير إن المعركة إلى نهاية لأن الكماشة السورية تطبق عليهم، وألح عليّ لأزور العاصمة السورية من دون تردد طالباً مني ألا أضيع الوقت في البحث في مسائل أمنية أو عسكرية، بل أن أركز على الناحية السياسية، وعلى أساس المشكلة حتى نرى إذا كان ثمة مجال لحلها نهائياً. ولمست يومئذ لدى بشير مزيجاً غريباً من التصلب والخوف، وأيقنت أن القضية أكبر منه وأنه ضائع إلى حد كبير.

أتى فيليب حبيب في السابع من أيار (مايو) حاملاً رسالة من الرئيس رونالد ريغان إلى الرئيس إلياس سركيس مفادها أن مهمته هي العمل بسرعة لوقف تدهور الوضع ولتجميد المواجهة بين إسرائيل وسورية، لأن الإدارة الأميركية كانت تظن أن مواجهة بينهما قد تجر إلى مواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

اجتمعت بالموفد الأميركي ليلة وصوله من التاسعة إلى العاشرة والنصف بحضور موريس درايبر والسفير الأميركي جون غونتر دين وجوني عبدو. بعدما عرض حبيب لي فحوى مهمته المحصورة بإزالة التوتر بين سورية وإسرائيل، تمحورت أسئلتي حول نقطة واحدة: «إذا تحركت إسرائيل وضربت الصواريخ، فهذا يعني حصولها على ضوء أخضر منكم، فكيف تحدد بالتالي سياستكم حيال لبنان ومنطقة الشرق الأوسط؟» وجاء جواب الموفد الأميركي مبهماً. وفي اليوم التالي، اجتمع حبيب ودرايبر ودين بالرئيس سركيس بحضوري. خلال الاجتماع، شدد حبيب على ضرورة الحؤول دون وقوع حرب والعودة إلى الستاتيكو الذي كان قائماً قبل الثاني من نيسان (أبريل) 1981، معتبراً أن مهمته تنحصر في ذلك، ورافضاً البحث في أي موضوع متعلق بالأزمة اللبنانية عموماً.

وفي ظل استمرار الضغوط على سورية، طلبت الجزائر بدعم من منظمة التحرير الفلسطينية ومن سورية انعقاد مجلس الجامعة العربية بصورة استثنائية. فانعقد المجلس في الثاني والعشرين من أيار (مايو) في تونس، وترأست وفد لبنان.

مرور العاصفة

وصلت إلى تونس مساء الحادي والعشرين من أيار (مايو)، أي عشية افتتاح مجلس الجامعة. ومنذ اللحظة الأولى، شعرت بفداحة ما تسبب به بشير الجميل من خلال حرب زحلة: لقد جعل العرب، حتى أكثرهم خصومة لسورية، يتضامنون معها لأنها عرضة للتهديد الإسرائيلي. وليلاً، زارني في جناحي في الفندق

عبدالحليم خدام وعقدنا اجتماعاً دام ساعة ونصف الساعة، أطلعني خلاله على مشروع قرار عن مجلس الجامعة أعدته الخارجية السورية. فكانت لي عليه ملاحظات أولية خصوصاً لناحية إعلانه حق العرب في التدخل في لبنان وإدخال جيوشهم إليه من غير الإشارة إلى موقف السلطة الرسمية، وأدخلت تعديلات عليه وافق خدام عليها من دون نقاش مستفيض.

صباح اليوم التالي، وقبل افتتاح مجلس الجامعة، اجتمعت بالأمين العام الشاذلي القليبي الذي فهمت منه أن السعودية والكويت ترغبان في لعب دور في حل الأزمة اللبنانية. ثم اجتمعت برئيس الدورة الشيخ صباح الأحمد الصباح، وزير الخارجية الكويتية، الذي لم يحاول حتى إخفاء خصومته لسورية والذي أسر إلي بأن بلاده والسعودية مضطرتان إلى مساندتها ومساندة قوات الردع العربية وإعادة تمويلها، «ريثما تمر العاصفة»، نظراً إلى الخطر الإسرائيلي الذي يتربص بها، لكنهما ترغبان في أن نتمكن مع الوقت أن نعيد «تطعيمها» بقوات غير سورية وأن ندخل بعض التعديلات على دورها. أما وزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل الذي اجتمعت به في ما بعد فكان على عادته شديد التكتم، وقد وافقني على ألا مفر من التحرك لكن بموافقة السوريين. وتفاهمت معه على إعادة تنشيط لجنة المتابعة ولكن على مستوى وزراء الخارجية، فحاول التملص وإبقاءها على مستوى السفراء المعتمدين لدى بيروت ولكنني لم أقبل.

بدأت أعمال المجلس وألقيت كلمتي التي لاقت استحساناً لافتاً على رغم كونها قاسية بعض الشيء لناحية ملامة العرب على عدم المبادرة بجدية.

مؤامرة اغتيال

بعد عودتي إلى لبنان، جرى التركيز بشكل خاص على إحياء لجنة المتابعة العربية، ولكن الوضع الأمني الذي كان يزداد تدهوراً جعل السعوديين يحاولون عقد الاجتماعات في الرياض. رفض الرئيس سركيس ذلك مصراً على عقدها في لبنان، فكشف لنا السعوديون إذّاك أنهم تلقوا معلومات مفادها أن ثمة مؤامرة لاغتيال الأمير سعود الفيصل، مشددين على صرف النظر عن الاجتماع في قصر بعبدا الذي كان تعرض في وقت سابق لقصف مباشر.

تمام السابعة من صباح السابع من حزيران (يونيو)، توجهت من بيت الدين حيث أمضيت ليلتي للإشراف على وضع اللمسات الأخيرة لاجتماع لجنة المتابعة، إلى شتورا لاستقبال نظرائي الثلاثة السعودي والكويتي والسوري الذين رافقوني إلى بيت الدين حيث انعقد في الساعة العاشرة الاجتماع الذي جاءت نقاشاته ممتعة ومتشعبة في آن واحد. وكان سفيرا الكويت والسعودية قالا لي إن على الرئيس سركيس أن يثير المطالب التي يريد وإن بلديهما على استعداد للتجاوب مع ما سيطرحه. لذلك عمد رئيس الجمهورية إلى إثارة كل المشاكل، وما تبقى منها أثرته أنا. واحتدم النقاش خصوصاً عندما بحثنا في مسألة بقاء أو انسحاب قوات الردع العربية من لبنان تدريجياً، وكذلك عندما تطرقنا إلى ضرورة «تطعيمها» بوحدات غير سورية، إذا بقيت في لبنان، وفي علاقات بعض اللبنانيين بإسرائيل، وفي القصف العشوائي إلى ما سوى ذلك من مواضيع خلافية بيننا وبين السوريين.

كان عبدالحليم خدام قاسياً جداً بحق بشير الجميل والكتائب والقوات اللبنانية، وقال: «تؤكد سورية تعاون فريق من اللبنانيين، الكتائب، مع العدو الإسرائيلي، وتمتلك من الوثائق والمحاضر ما يدل على مخططات رهيبة لتقسيم لبنان. وذلك من خلال ما عرضه بشير الجميل على العقيد محمد الخولي الذي عقد اجتماعات عدة مع بشير من أجل مفاوضته وإقناعه بفك الارتباط مع إسرائيل». وأبدى اقتناعه «بسوء نوايا بشير الجميل بصورة خاصة، وبالتالي بما لدى حزب الكتائب من مخططات تعمل على سلخ هذه المجموعة من جسد الأمة العربية وجعلها معبراً للشرور والاعتداءات الإسرائيلية». وهنا تدخل وزير الخارجية الكويتية الشيخ صباح الأحمد الصباح قائلاً إن التعاون بين الكتائب وإسرائيل يجب ألا يستمر «مهما كانت الظروف، ونريد الآن أن نسمع من الرئاسة مدى إمكانية تحقيق هذا المطلب لأن هؤلاء الناس أصبحوا غير مرتبطين بلبنان مثلما هم مرتبطون بغيره. والمهم أن نقنع إخواننا الكتائبيين بأن يساعدونا ولا يضعونا غطاء لهم (...) نريد أن يظهر الكتائبيون روح التعاون بالإعلان عن فك ارتباطهم بالعدو وهذا من الأولويات ونحن لا نمانع في الاجتماع ببشير وبغيره ويمكن أن نوجد لهم مخارج».

وعندما سأل وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل عن كيفية التحقق من إقدام الكتائب على إعلان فك ارتباطها مع إسرائيل، أجابه رئيس الجمهورية: «عندما أعلنت مبادئ الوفاق كان هناك بند أساسي يرفض أي تعامل مع إسرائيل. ووقع كل الفرقاء على هذه المبادئ، وقع الشيخ بيار وبشير وكميل شمعون، فضلاً عن بقية الفرقاء المسيحيين. ما أريد قوله هو أن الخيار المسيحي لا يمكن أن يكون خياراً إسرائيلياً، صار هناك تعاط مع إسرائيل من قبل بعض الأفراد لتأمين السلاح. أنا شخصياً أتصور -مجرد تصور شخصي- أنه إذا أعطينا ضمانات لهذا الفريق المتخوف الذي بدأ في شراء الأسلحة من إسرائيل للدفاع عن نفسه ينتهي الأمر».

الإيقاع السوري

حاول عبدالحليم خدام وقف أعمال اللجنة العربية إلى أن يقدّم قائد القوات اللبنانية بشير الجميل تعهد فك الارتباط مع إسرائيل، وقد تقرر أن تتابع اللجنة مهمتها في الوقت الذي نتابع فيه المشاورات من أجل الوصول إلى هذا التعهد. وعهدت اللجنة إلى وزيري خارجية الكويت والسعودية الاتصال بجميع الأطراف اللبنانية الأساسية بمن فيهم بشير الجميل. واتفقنا على أن تعقد لجنة المتابعة اجتماعاً تحضيرياً في السعودية في الثالث والعشرين من حزيران (يونيو) تعقبه جلسة للجنة في الرابع من تموز (يوليو) 1981، في قصر بيت الدين.

وقد ترسخ اعتقادي، بعد اجتماع لجنة المتابعة في بيت الدين أن سورية لا تريد أن تسحب جيشها من لبنان حتى إشعار آخر، فهي تارة تتذرع بخطر إسرائيل عليها، وطوراً بعدم أهلية الجيش اللبناني وعدم قدرته على تولي مهمات أمنية، بينما تحرص الحركة الوطنية على اتخاذ مواقف تطعن في الجيش بشكل يدعم وجهة نظر سورية. وكان الرئيس الوزان حتى ذلك الوقت، على رغم مواقفه الشجاعة، يراعي إلى حد ما الحركة الوطنية في تهجمها على الجيش.

وعلى وقع الاشتباكات المتقطعة والتأزيم المستمر، أعددت ما عرف آنذاك «بورقة العمل اللبنانية» لبحثها في السعودية ضمن الاجتماع التحضيري للجنة المتابعة العربية.

على أرض المطار في جدة، كان وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل في انتظارنا وإلى جانبه سفير لبنان لدى المملكة ظافر الحسن. وبعد استراحة وجيزة في قصر الحمراء حيث استضفنا، تناولت طعام الغداء مع نظرائي الثلاثة: صباح الأحمد الصباح، وسعود الفيصل، وعبدالحليم خدام. وعند الخامسة عصراً، بدأت الاجتماعات، بحضور وزراء الخارجية الأربعة والأمين العام لجامعة الدول العربية الشاذلي القليبي وممثله في بيروت محمود المعموري.

حاول وزير الخارجية السورية منذ اللحظة الأولى فرض إيقاعه على الاجتماع عندما قال: «إن سورية لن تقدم أي تنازل إلا بعد أن يعلن حزب الكتائب في وثيقة رسمية تنديده بالتعامل مع إسرائيل». وبعد أخذ ورد غير وجيزين، وافق نظرائي على دراسة ورقة العمل اللبنانية، ولكنهم أكدوا أنه لن ينفذ منها شيئا قبل صدور الورقة الكتائبية المطلوبة.

نجاح «التطعيم»

عقدنا في الرابع والعشرين من حزيران (يونيو) جلستين، صباحية ومسائية، تخللتهما زيارة قمت بها إلى العاهل السعودي خالد بن عبدالعزيز، برفقة السفير ظافر الحسن. وتمكنا خلال الجلستين اللتين تميزتا بالجدال الحاد بيني وبين عبدالحليم خدام حول معظم المواضيع المطروحة، من تحقيق أمرين مهمين: جدولة زمنية لإعادة تنظيم الجيش، وإقناع سورية بمبدأ «تطعيم» قوات الردع بوحدات عربية إلى جانب الوحدات السورية، إضافة إلى وضع برنامج لانتشار قوات الردع العربية في لبنان. وفي اليوم التالي، ركبنا الطائرة عائدين إلى بيروت، وكان تقييمي لأداء نظرائي الثلاثة وزراء خارجية الكويت والسعودية وسورية خلال اجتماع جدة على الشكل التالي: «إن صباح الأحمد، يتمتع بقدرة فائقة على المناورة، وسعود الفيصل وزير خارجية جيد وفعّال، ولكنني أشك في قدرة بلاده على التأثير على دمشق، أو على ردعها، أما عبدالحليم خدام فهو محام عادي يستغل موقعه إلى أبعد الحدود، ويتهمني بأني الحاكم الفعلي في لبنان، ولعلي في الواقع أتخذ بعض القرارات الأساسية المتعلقة بالسياسة الخارجية والداخلية في الدولة، نظراً لتمتعي بثقة الرئيس سركيس، ولكن في الأساس هل من سلطة فعلية في لبنان بالمعنى الصحيح؟».

عدت إلى بيروت وشاركت أهل الحكم في سلسلة مشاورات واتصالات بغية تهدئة الوضع الأمني في البقاع وفك الحصار عن أهالي زحلة، وتهيئة الجو السياسي لنجاح مساعي تحقيق الوفاق. وقد أثمرت أخيراً الجهود العربية والدولية واللبنانية التي بذلت في سبيل إنهاء مأساة زحلة، وتوصلنا إلى إقناع السوريين بقبول انتشار ثلاثمئة وخمسين عنصراً من قوى الأمن الداخلي، وخروج مقاتلي القوات اللبنانية من المدينة بأسلحتهم الخفيفة في حافلات ركاب، في الثلاثين من حزيران (يونيو) بعد نحو ثلاثة أشهر على بدء المعارك والحصار. غير أن أزمة الصواريخ بقيت على حالها وإن كانت تراجعت حدتها بعد إبداء الأطراف المعنية مقداراً مقبولاً من ضبط النفس. وفي الثاني من تموز (يوليو)، زرت العاصمة السورية حيث اجتمعت بنظيري عبدالحليم خدام وبالرئيس حافظ الأسد لإجراء محادثات حول القضايا التي ستثار في اجتماع لجنة المتابعة العربية بعد يومين.

ردود فعل ساخطة

عند الخامسة من عصر الرابع من تموز (يوليو)، وصل الوزراء سعود الفيصل وصباح الأحمد الصباح وعبدالحليم خدام إلى بيت الدين بعد مرورهم بإهدن، حيث قاموا بزيارة الرئيس سليمان فرنجية. وكنا الرئيس سركيس وأنا وصلنا عند الواحدة ظهراً للإشراف على الترتيبات الأخيرة لاجتماع اللجنة الرباعية، وحضر أيضاً رئيس الحكومة شفيق الوزان. وكنا لم نفقد الأمل في أن يتمكن جوني عبدو من إقناع بشير الجميل بإعلان تنديده بالتعامل مع إسرائيل. وكان مدير المخابرات يعمل في هذا الاتجاه منذ أن عدت من السعودية، وقد عقد سلسلة اجتماعات مع قائد القوات اللبنانية لإقناعه بذلك.

عقدنا الجلسة الأولى في تمام الثامنة. وفور افتتاح الجلسة، سأل عبدالحليم خدام عن الورقة الكتائبية، فطلب الرئيس سركيس التريث حتى ظهر اليوم التالي لأن الاتصالات لاتزال جارية في هذا الشأن مع بشير الجميل. ثم بدأ الحديث عن ورقة العمل اللبنانية، وقرأ عبدالحليم خدام البند المتعلق بالجيش اللبناني ومسألة تولي مسؤولياته الأمنية، وما جاء من طلب برمجة لانسحاب قوات الردع العربية من بيروت وضواحيها قبل حلول الأول من آب (أغسطس) 1982. ثم نظر إلى الرئيس سركيس وقال له: «فخامة الرئيس، كنت أتمنى لو أنكم وضعتم هذه الورقة بالتعاون مع رئيس الحكومة وليس مع الأخ فؤاد». فدخلت على الخط وقلت لخدام: «إن دولة الرئيس مشارك أساسي في وضعها». عندها توجه بالسؤال إلى الرئيس الوزان: «هل أنت مشارك في وضع هذه الورقة؟»، فأجابه رئيس الحكومة بالإيجاب. وبدا في الحال لجميع الحضور أن خدام استاء للغاية من موقف الرئيس الوزان. وعلمت لاحقاً أن نظيري السوري فاتح رئيس الحكومة مجدداً بالموضوع بعد انفضاض الجلسة، وعندما جدد الأخير التزامه وتمسكه بما جاء في ورقة العمل، قال خدام له بسخط شديد: «دعني أرى كيف ستطبقونها».

وساد في الأوساط السياسية، بعدما انتشر ما جرى بين رئيس الحكومة ووزير الخارجية السورية، انطباع بأن الرئيس الوزان سيدفع ثمن موقفه وأن حكومته ستسقط في أمد قريب، لتخلفها حكومة برئاسة رشيد كرامي.

حبيب وغلاسبي

صباح اليوم التالي، أبلغني جوني عبدو أن بشير الجميل لم يقبل بإصدار البيان الذي يشجب فيه التعامل مع إسرائيل لأن قائد القوات رفض أن يأتي كنتيجة للضغط السوري، ويفضل أن «يبيع» هذا التنازل للسعودية لا لسورية، على أن يأخذ مقابله ضمانات معينة.

وبالفعل زار بشير الجميل رئيس الجمهورية في السادس من تموز (يوليو)، ووضع في عهدته المذكرة المطلوبة من غير إعلان مضمونها ليستعملها في الوقت المناسب إسهاماً في تقدم أعمال لجنة المتابعة العربية، ولكي لا تبدو القوات اللبنانية كأنها المعرقلة للحل.

في التاسع من تموز (يوليو) 1981، غادرت مطار بيروت برفقة زوجتي ورفيقي الأمين طوال تلك الفترة سمير مبارك، متوجهاً إلى باريس حيث أمضيت ليلتين، ومنها إلى نيويورك حيث وافاني طبيبي اللبناني، الدكتور سمير علم، ودخلت مستشفى القديس لوقا في الثالث عشر منه، وأجريت فحوصاً أكدت تشخيص طبيبي في بيروت، وخضعت لعملية جراحية في القلب في الخامس عشر من تموز (يوليو) تكللت بالنجاح. وفي الثلاثين من تموز (يوليو)، زارني السفير فيليب حبيب برفقة آبريل غلاسبي واجتمع بي بحضور فخري صاغية وسمير مبارك، متمنياً لي الشفاء العاجل وللبنان عدم الإصرار على الذهاب إلى مجلس الأمن، مشيراً إلى أن هذا التكتيك فلسطيني. وأذكر أنني استقبلت حبيب وغلاسبي قائلاً: «لو كان سياسيوكم ودبلوماسيوكم على مستوى أطبائكم، من حيث العلم والمهارة، لكنتم وفرتم عليكم وعلى العالم كمية لا بأس بها من المشاكل».

يتبع

back to top