أنقذوا الأسواق الناشئة

نشر في 20-11-2008
آخر تحديث 20-11-2008 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت لو كان العالم عادلاً لكانت أغلب الأسواق الناشئة الآن تشاهد الأزمة المالية التي اجتاحت اقتصاد العالم المتقدم من الكواليس- بل وما كانت لتحضر العرض على الإطلاق أو تبالي به. ففي هذه المرة على الأقل لم تكن الشرارة التي أشعلت النار في الأسواق المالية راجعة إلى تجاوزاتها، بل إلى تجاوزات وول ستريت.

كانت أوضاع الأسواق الناشئة على الصعيدين الخارجي والمالي أقوى من أي وقت مضى، وذلك بفضل الدروس الصعبة التي تعلمتها من تاريخها العامر بالأزمات. بل وربما كنا لنسمح لهذه البلدان بقدر من الشماتة في المتاعب التي تواجهها الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الغنية، تماماً كما قد نتوقع من الأطفال أن يشعروا بابتهاج خبيث حين يقع آباؤهم في ذلك النوع من المتاعب التي يحذرون أطفالهم منها أشد التحذير. ولكن ما حدث في الواقع أن الأسواق الناشئة تعاني الآن هزات مالية ربما تكون ذات أبعاد تاريخية. ولم يعد أقصى ما تخشاه أن تعجز عن عزل نفسها، بل أن تنجر إلى أزمات أعمق كثيراً من تلك التي سوف يشهدها مركز انهيار سوق الرهن العقاري الثانوي.

كان من المفترض في بعض هذه البلدان أن تتحلى بقدر أعظم من الوعي، بل وربما كان بوسعها أن تحمي نفسها في وقت بسيط. على سبيل المثال، لا عذر لأيسلندا التي حولت نفسها إلى «صندوق تحوط» يعتمد كل الاعتماد على الروافع المالية. وكانت بلدان أخرى في وسط وشرق أوروبا، مثل المجر، وأوكرانيا، ودول البلطيق، تعيش على حافة الهاوية، بسبب العجز الضخم في حساباتها الجارية والديون الضخمة التي تحملتها الشركات والأسر بالعملات الأجنبية. أما الأرجنتين، التي لعبت دور الصبي الشقي في النظام المالي الدولي، فلم تعجز قط عن الإتيان بحيلة جديدة لترويع المستثمرين- على سبيل المثال تأميم صناديق معاشات التقاعد الخاصة.

بيد أن الأسواق المالية لم تميز إلا قليلاً بين هذه البلدان وغيرها من البلدان، مثل المكسيك والبرازيل وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، التي كانت حتى أسابيع قليلة تبدو نموذجاً للصحة المالية. ولنتأمل هنا ما حدث لكوريا الجنوبية والبرازيل. لقد شهد كل من البلدين أزمة نقدية قبل وقت ليس بالبعيد- كوريا الجنوبية أثناء الفترة بين عامي 1997 و1998، ثم البرازيل في عام 1999 وفي أعقاب هاتين الأزمتين اتخذ كل من البلدين الخطوات اللازمة لزيادة مرونته المالية. فخفضا من معدلات التضخم، وعوّما عملتيهما، وحققا فوائض خارجية، وقلصا العجز، وعملا في المقام الأول من الأهمية على تكديس تلال من الاحتياطيات الأجنبية (التي تتجاوز الآن ديونهما الخارجية قصيرة الأمد). ولقد كوفئت البرازيل منذ وقت قريب، في شهر أبريل من هذا العام، عن سلوكها المالي الطيب حين رفع مؤسسة «ستاندرد آند بورز» للتقييم تصنيفها الائتماني إلى درجة الاستثمار. (كان هذا نفس تصنيف كوريا الجنوبية لأعوام). ومع ذلك فقد تعرض هذان البَلدان أخيراً لضربات قوية في الأسواق المالية. ففي غضون الشهرين الماضيين خسرت عملة كل منهما ما يقرب من ربع قيمتها في مقابل الدولار الأميركي. وكان انحدار السوق المالية في كل منهما أعظم (40% في البرازيل و33% في كوريا الجنوبية). والمشكلة هنا أن العوامل الاقتصادية الأساسية تعجز كل العجز عن تفسير أي من هذا. فقد شهد البَلدان نمواً قوياً في الآونة الأخيرة. والبرازيل من البلدان المصدرة للسلع الأساسية، ولكن هذه ليست حال كوريا الجنوبية. وكوريا الجنوبية تعتمد إلى حد كبير على التصدير إلى البلدان المتقدمة، لكن البرازيل أقل منها كثيراً في الاعتماد على التصدير إلى البلدان المتقدمة. إن هذين البلدين وغيرهما من البلدان ذات الأسواق الناشئة كانت ضحية اللجوء العقلاني إلى السلامة، ثم تفاقمت المشكلة بفعل ذعر غير عقلاني. إن الضمانات العامة التي كفلتها حكومات الدول الغنية لقطاعاتها المالية كانت سبباً في الكشف بقدر أعظم من الوضوح عن الخط الرفيع بين الأصول «الآمنة» والأصول «المحفوفة بالمخاطر»، وبالطبع كانت أصول الأسواق الناشئة من الفئة الأخيرة. وهنا نرى العوامل الاقتصادية الأساسية وقد خرجت من المعادلة مرة أخرى.

ولكي يزداد الطين بلة فقد حُـرِمَت الأسواق الناشئة من الأداة الوحيدة التي نجحت البلدان المتقدمة في توظيفها من أجل وقف الذعر المالي لديها: والتي تتلخص في الموارد المالية المحلية أو السيولة المحلية. إن الأسواق الناشئة تحتاج إلى العملة الأجنبية، وبالتالي الدعم الخارجي.

إن التحركات اللازمة الآن واضحة كل الوضوح. فيتعين على صندوق النقد الدولي والبنوك المركزية في بلدان مجموعة الدول الصناعية السبع القيام بدور الملاذ العالمي الأخير للإقراض وتوفير القدر الكافي من السيولة- على وجه السرعة وبأقل قدر من القيود- من أجل دعم عملات الأسواق الناشئة. إن حجم القروض اللازمة قد يصل إلى مئات المليارات من الدولارات، وقد يتجاوز كل ما قام به صندوق الدولي حتى الآن. بيد أن الموارد متوافرة. وإذا لزم الأمر فيستطيع صندوق النقد الدولي أن يصدر حقوق سحب خاصة (SDRS) لتوليد السيولة العالمية المطلوبة.

فضلاً عن ذلك فإن الصين، التي تملك ما يقرب من تريليوني دولار من الاحتياطيات الأجنبية، لابد أن تكون جزءاً من مهمة الإنقاذ هذه. إن ديناميكية الاقتصاد الصيني تعتمد إلى حد كبير على الصادرات، وهو القطاع الذي سوف يعاني أشد المعاناة إذا ما انهارت الأسواق الناشئة. بل إن الصين في الواقع قد تكون الدولة الأكثر عُـرضة للمخاطر المترتبة على الانكماش الاقتصادي العالمي، وذلك بفضل احتياجها إلى معدلات نمو مرتفعة لتغطية تكاليف السلام الاجتماعي. إن المصلحة الذاتية المجردة لابد أن تكون كافية لإقناع البلدان المتقدمة أيضاً بالمنطق نفسه. والحقيقة أن انهيار عملات الأسواق الناشئة، والضغوط التجارية الناتجة عن ذلك، سوف تزيد من شدة المصاعب التي ستواجهها في محاولاتها الرامية إلى منع مستويات البطالة من الارتفاع إلى حد هائل. وفي غياب ما يمنع الوضع المالي في البلدان الناشئة من المزيد من الانهيار، فقد لا يكون بوسعنا أن نستبعد السيناريو المهول الذي يتلخص في انزلاقنا إلى حلقة مفرغة أشبه بتلك التي شهدها العالم في ثلاثينيات القرن العشرين. لقد بادر صندوق النقد الدولي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) في الولايات المتحدة إلى اتخاذ بعض الخطوات الإيجابية، فأنشأ الاحتياطي الفيدرالي تسهيلات مقايضة لمصلحة أربعة بلدان (كوريا الجنوبية، والبرازيل، والمكسيك، وسنغافورة) بقيمة ثلاثين مليار دولار لكل منها، كما أعلن صندوق النقد الدولي عن تسهيلات جديدة سريعة التوزيع في الأمد القريب لعدد محدود من البلدان التي تتبنى سياسات طيبة. والسؤال الآن هو ما إذا كانت هذه الخطوات كافية، وماذا سيحدث للبلدان التي لن تتمكن من الاستفادة من هذه البرامج. إذن، فحين تلتقي بلدان مجموعة العشرين في واشنطن في الخامس عشر من نوفمبر في إطار قمتها الطارئة، فلابد أن يكون هذا هو جدول الأعمال الذي سيهيمن على مناقشات القمة. وسوف يكون الوقت متاحاً لمناقشة إمكانية عقد مؤتمر ثانٍ على غرار مؤتمر «بريتون وودز» (الذي انعقد في أعقاب الحرب العالمية الثانية) وإنشاء جهاز تنظيمي عالمي. إن الأولوية الأولى في الوقت الراهن تتلخص في إنقاذ الأسواق الناشئة من العواقب المترتبة على الحماقات التي ارتُـكِبَت في وول ستريت.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي لدى كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top