هل تنجح واشنطن في اصطياد دمشق كما اصطادت القاهرة؟
جورج ميتشل، مبعوث الرئيس الأميركي أوباما لحل أزمة الشرق الأوسط، لم يقل كل ما في جعبته للقادة العرب الذين التقاهم في جولته الأخيرة بالمنطقة. كل ما قاله يمكن اختصاره بجملة واحدة: تأكيد الإدارة الأميركية والتزامها بحل الأزمة على أساس قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية. وهذا موقف بات معروفاً من الجميع. أما كيف سيجري الحل وأين ستكون حدود الدولة الفلسطينية الموعودة فهي أمور حرص ميتشل أن يبتعد عن الخوض في تفاصيلها، ليس لأنه يملك الأجوبة ويريد أن يخفيها، بل لأنه، لا هو ولا رئيسه ولا غيره في واشنطن، لديهم خطة أو فكرة وحتى تصور عن هذا الموضوع برمته.غير أن تأكيدات ميتشل المبهمة لم تشبع جوع القادة العرب، خصوصا أولئك الذين مازالوا يؤمنون بأن أوراق الحل والربط مازالت بيد الولايات المتحدة، وما عليها إلا أن تأمر فتستجيب لأمرها إسرائيل!
قد يصح ذلك في حالة واحدة وهي أن تستخدم واشنطن كل ما لديها من أوراق ضغط على تل أبيب بحيث يشعر نتنياهو وجماعته بأنهم وصلوا إلى نهاية الطريق مع الولايات المتحدة، وأن الأخيرة تعني ما تقول، ولعل الجملة السحرية التي تملكها واشنطن لتحقيق ما تريده من تل أبيب هي التالية: NO MORE MONEY أي التهديد بوقف مختلف المساعدات عن الدولة الصهيونية التي لا تستطيع العيش سنة واحدة من دونها. لكن الولايات المتحدة لم تستخدم هذه الجملة طيلة الثلاثين سنة الماضية وكل من يعتقد أنها ستستخدمها اليوم فهو واهم وواهن.إن الواقع الإسرائيلي في عصر نتنياهو-ليبرمان يختلف عما سبقه، وبدلاً من تسهيل مهمة أوباما في تحقيق رغبته بقيام الدولتين تمهيداً للسلام الشامل في المنطقة، فإن حكومة اليمين المتطرف تزيد الأمر صعوبة بواسطة تفريغ الشعار الأميركي المبهم بقيام دولتين من محتواه السياسي والعملي. وهذا يعني بداية تمرد إسرائيلي على الرغبة الأميركية. وهذا يعني أيضاً أن نتنياهو مازال ينتابه ذلك الشعور القديم بأن إسرائيل هي الأقوى سياسياً من الولايات المتحدة فيما يتعلق بفرض شروط السلام الشامل. ومن المفيد التذكير بأن نتنياهو هدد في التسعينات، ومن فندقه في العاصمة الأميركية، بحرق واشنطن إذا مارست ضغوطها على إسرائيل للقبول بحل الدولتين، وفي ذلك الوقت عاقبت واشنطن «الطفل اليهودي المعجزة» بإبعاده عن العمل السياسي، لكنها لم تعاقب الدولة الإسرائيلية. فما الذي يدعو واشنطن اليوم إلى استخدام لغة العقاب خصوصا بعد أن تسلح نتنياهو بأكثرية الشعب الإسرائيلي وعاد إلى الحكم وهو أقوى مما كان عليه في التسعينيات، وفي ظل عدم وجود رؤية أو خطة أميركية واضحة سوى إقناع إسرائيل بالحسنى بألا تضرب المفاعل النووي الإيراني في هذه المرحلة على الأقل خوفاً من إشعال المنطقة برمتها.وبالرغم من كل ذلك فإن موجة مصطنعة من التفاؤل غير المبرر تسيطر هذه الأيام على أجواء العاصمة الأميركية حول إمكانية التوصل هذه السنة إلى تحقيق الخطوة الأولى نحو السلام، فما مبعث هذا التفاؤل؟ وهل هو نوع جديد من المخدّر أنتجته حديثاً مختبرات السياسة الأميركية؟ ام أن الموضوع برمته مازال يعشعش في غياب السراب المخادع؟!ليس هناك أجوبة كاملة عن هذه الأسئلة وغيرها، بل هناك مؤشرات لم تخرج إلى العلن، وبقيت في إطار ما يسمى بالتمنيات، والدليل على ذلك أن واشنطن بدأت عملية الهروب من الحل الشامل للأزمة بتركيزها على سورية أملاً في «اصطيادها» كما اصطادت من قبل مصر أنور السادات في السبعينيات، ويمكن القول إن مبعث وجه التفاؤل الأميركي هو تنفيذ عملية الاصطياد ولا شيء غيره.إن المراهنة الأميركية على الفصل بين المسار السوري ومسار الحل الشامل هو نوع من أنواع المقامرة غير المحسوبة، مما يدل على أن واشنطن قد انضمّت إلى فئة مرضى القمار التي تبيع ما فوقها وما تحتها من أجل اللحاق بسراب الحظ الجيد. وهناك قول معروف: لا تبكي على الخاسر، لأنه خسر كل ما عنده وانتهى أمره... بل ابكِ على الذي يستمر في المقامرة، أملاً في تعويض الخسائر، لأنه الخاسر الدائم.وصلت عدوى التفاؤل إلى الصحافي الأميركي المعروف سيمور هيرش، فقد كتب في مجلة «النيويوركر» بتاريخ 6 نيسان/ابريل مقالاً طويلاً حاول من خلاله أن يجاري الإدارة الأميركية في بث الروح في جسد السلام الذي أطلقت عليه حكومة نتنياهو رصاصة الرحمة. لقد اعتمد المقال الطويل على حوارات مع كل من له شأن بأزمة الشرق الأوسط عرباً ويهوداً وأميركيين، غير أنه لم يتمكن من الردّ على سؤال هو في الأساس مفتاح الحلّ: إلى أي مدى «تستطيع» إدارة أوباما الوصول في ضغوطها على حكومة «المتمرد» نتنياهو، هذا في حال اتخاذها قرار المواجهة؟ وبدلاً من الإجابة يشير «مقال الحوارات» هذا إلى عنصر الوقت اللازم للإدارة الأميركية لتنفيذ الخطوة الأولى نحو السلام الشامل، فيذكر، على لسان مسؤولين أميركيين كبار، أن الوقت المطلوب لا يقل عن خمس سنوات. وهذا في حدّ ذاته مؤشر مهم على عدم جدية الإدارة الأميركية وبالتالي رغبتها في شراء الوقت. فمن باستطاعته أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث خلال السنوات الخمس القادمة؟ وهل يستطيع عرب الاعتدال وعرب التطرف أن يناموا على حرير الوعد الأميركي الطويل والمنطقة في وضعها الحاضر المتفجر في سباق مع الزمن الذي لا يرحم؟! وعندما يسأل العرب، خصوصا سورية: ما ضماناتكم؟ يأتي الجواب الأميركي عبر الحوار الجاري اليوم: إن المجتمع الدولي سيكون الضامن الرئيسي. ويسألون أيضاً: من يضمن ضمانات المجتمع الدولي الذي عجز عن تنفيذ ضمانات سابقة؟ يأتي الجواب الأميركي المبهم: الإدارة الجديدة والرئيس أوباما شخصياً. ثم يظهر سؤال آخر على لسان السوريين: ومن يضمن إعادة انتخاب أوباما بعد انتهاء فترة ولايته ومدتها أربع سنوات؟ وفي حال فوزه بولاية ثانية من يضمن ألا يسحب الضامن ضمانته تحت تأثير المتغيرات الدولية و... العربية؟وتتوالى الأسئلة والأجوبة وكأن القضية كلها محصورة في: من يضمن من. وهو حوار شبيه بالخلاف البيزنطي القديم العهد حول من وُجد أولاً: الدجاجة أم بيضها؟ غير أن هناك ناحية محسوبة ومطلوبة أميركياً وإسرائيلياً في استمرار هذا النمط من حوار الطرشان، لأنه يزرع الشكوك بين الحليفين الاستراتيجيين سورية وإيران. وهناك معلومات تشير إلى أن «الفأر بدأ يلعب في عبّ طهران»– كما يقول المثل– وإن إيران تتململ وتنظر بعين الشك والريبة وتطالب سورية بإصرار بإيقاف هذا النوع من الحوار مع واشنطن.من ناحية أخرى فإن دمشق فرحة كفرح الأطفال يوم العيد بهذا الحوار، وتعتبر أنها انتصرت في معركة فك العزلة الدولية عنها، متناسية قواعد اللعبة بأن إنهاء الشراكة بين فريقين يبدأ أول ما يبدأ بالشك وبالريبة.* * *بالعودة إلى مقال هيرش، فقد كتب أنه حمل رسالة شفهية من الرئيس السوري إلى أوباما وُضِعت بصيغة (E-Mail) بناء على طلب هيرش لإضفاء المصداقية عليها، احتوت على نقاط عدة لعل أهمها رغبة بشار في عقد لقاء شخصي ومنفرد مع أوباما لأنه «من الضروري جداً أن تلعب الولايات المتحدة دوراً حيوياً وفعالاً في صناعة السلام...» وهذا الموضوع يجب أن يتمّ بحثه ومناقشته «في لقاء منفرد وليس في مؤتمر عامّ». * كاتب لبناني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء