عندما كتبت في هذا الموضوع في الأسبوع الماضي لم أتوقع ردود الأفعال المتفاوتة، كما لم أوفق كما يبدو في شرح وجهة نظري بشكل واضح. الجميل والايجابي هو قدرة «الأغلبية» على نقاش الموضوع من دون تشنج أو تزمت، وهذه بادرة خير أرجو أن تصل عدواها إلى القلة التي جانبها الفهم وأساءت التعبير.

Ad

ذكر كثيرون أن اتساع وسهولة التواصل عبر أطراف المعمورة، وسرعة وثراء المعلومة المتوافرة عبر وسائل الاتصال والإعلام ساهمتا في «تنوير» الشباب وإطلاعهم على حقائق ونظريات وفلسفات مختلفة ساهمت بدورها في تغيير قناعاتهم، وأتفق مع ذلك تماماً. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في أحد كتب التربية الإسلامية في المرحلة الثانوية ذكر مرض الصرع كأحد أعراض المس بالجن! والطالب المجتهد يمكنه وبكل بساطة قراءة أبحاث طبية علمية توضح الأسباب العضوية للمرض من دون حاجة أو ذكر للجن أو الإنس. والأمثلة كثيرة، كادعاء احتواء لعاب الكلب على أمراض قاتلة، في حين أن فم الكلب أنظف من فم الإنسان لاحتوائه على مضادات حيوية قاتلة للكثير من البكتيريا والفيروسات... إلخ. هذا التناقض ما بين المعلومة «الدينية» والمعلومة العلمية كفيل بزرع الشك في قلوب الشباب الذين أصبح من السهل عليهم التأكد من صحة المعلومات والبحث عن الأدلة. وهذه التناقضات هي نتاج كسل علماء الدين وجمودهم في البحث والاستقصاء، واعتمادهم على الوسائل التقليدية في التلقين من دون أي مجهود البحث عن سند علمي أو منطقي- إن وجد.

ومع ذلك يبقى مفهوم الشباب العربي للإلحاد مختلفاً عنه في الغرب الذي يكون فيه الانفتاح الثقافي والمعلوماتي ليس حديثاً. في الغرب يبقى اختيار الإلحاد شخصياً وفي كثير من الأحيان قضية ثانوية، ولا يشكل أسلوب حياة وبالتأكيد لا يشكل «فكرا» أو حلا. ولكن المتابعة للكتابات والنقاشات العربية في الموضوع تصوِّر الإلحاد، وكأنه الحل لمشاكل الأمة والخلاص من التخلف والفساد، مما يؤكد أن الموجة بأغلبها رد فعل عام على أداء وسيطرة المتأسلمين لا من واقع دراسة أو تعمق ثقافي، وهنا الخطأ واحتمالات الخطر.

الخطأ أن يكون الإلحاد رد فعل عاطفي على مسلكيات وفتاوى المتأسلمين، والخطر أن يتحول الإلحاد إلى دين جديد لا مجرد قناعة شخصية. وهذا أمر واقع قائم لدى الكثيرين من الروحانيين والفلاسفة الغربيين الذين استبدلوا الإله بفكرة (كالأخلاق أو الجمال) أو «شيء» آخر (كالطاقة أو الضوء) أو ما يسمى بالديانات المعاصرة (New Age Religions ).

بعض القراء رأى وجود فرق بين أسباب إلحاد الخليجيين عن بقية العالم العربي. وعزا إلحاد العرب خارج الخليج إلى الفقر ودكتاتورية النظم القائمة. ولا أري فرقاً بين دكتاتورية الأنظمة ودكتاتورية الأغلبية. كما لا أعتقد أن الفقر المادي ذو تأثير مختلف عن الفقر الروحي والمعنوي فيما يتعلق بخيار الإلحاد. في الحالات كلها، هو انتقام، أو ثأر للنفس وتعطش بحت لأي شكل من أشكال الحرية.

القلة عزت التفكير في الإلحاد إلى ضعف الوازع الأخلاقي والانحلال الاجتماعي... ولهؤلاء أدعو بالهداية وبقليل من التفكير النقدي ومصارحة الذات. ما الذي يدعو الفاسد والمنحل الى التفكير بهذه الأمور والمخاطرة بعزل نفسه اجتماعياً وربما الملاحقة شرعياً؟ لماذا لا يلعبون ويلهون ثم يصلون ويصومون، كما هو حال كثير من «المؤمنين»؟ وما علاقة الأخلاق بالإيمان أو بعدمه؟ أليس كبار فلاسفة الأخلاق وعمالقة العمل الخيري والإصلاحي من الملحدين «أو المشركين» علناً؟ إنها تلك التصنيفات المعلبة والجاهزة للتوزيع التي تدفع الشباب الى الكفر بكل ما هو قائم وسائد.

هذه القلة نفسها أعادت على مسامعي اسطوانات إنجازات الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى وتقدمها وقت ضياع أوروبا في الظلام. وأكدت من ناحية صمود الإسلام واستمرار انتشاره، مشككة في المعلومة الرئيسية المتعلقة بوجود شباب ملحدين في الكويت، وفي ثنايا النقاش نفسه أكدوا أن الإلحاد ناتج عن ابتعادنا عن الدين وتبنينا العلمانية الأوروبية. ولا أحتاج هنا الى نقاش المغالطة المنطقية الواضحة في هذه الحجة. وأدعو القراء جميعاً الى قراءة تعليقات الشباب على الجزء الأول من هذه المقالة على الموقع الالكتروني للجريدة لاستشفاف الفكر والتوجه العام لطرفي القضية.

المطلوب هو القليل من التسامح، وبعض من الاطلاع والتفكير النقدي، والكثير الكثير من الإنصات للآخر لنصل إلى قناعات صلبة مبنية على أسس منطقية لا عاطفية أو نمطية دفاعية.