إن العام المقبل سوف يكون عاماً مشحوناً بالتوتر؛ سلسلة من الاختيارات العصيبة بين حتميات الحاضر وضرورات المستقبل، والكيفية التي سنحل بها هذا التوتر سوف تكون بمنزلة المقياس لبصيرتنا وقدرتنا على الزعامة.
وبوصفنا مجتمعاً من الأمم فإننا نواجه ثلاثة اختبارات مباشرة في العام المقبل: الاختبار الأول بدأ بالفعل، وهو لا يتمثل في الأزمة العالمية على الرغم من أهميتها، بل إنني أتحدث هنا عن مسألة تغير المناخ التي تشكل تهديداً حقيقياً لوجودنا.لم يعد أمامنا من الوقت سوى 12 شهراً قبل أن تنعقد قمة كبرى في كوبنهاغن، حيث سنجتمع نحن زعماء العالم في شهر ديسمبر المقبل من أجل التوصل إلى اتفاق حول الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي، وسوف نحتاج إلى اتفاق ينجح في تمديد وتعميق وتعزيز قوة «بروتوكول كيوتو». كما سنحتاج إلى معاهدة جديدة للقرن الحادي والعشرين تتسم بالتوازن والشمول؛ معاهدة تستطيع دول العالم كافة أن تتبناها.لقد قطعنا خطوة مهمة في هذا الاتجاه منذ أوائل شهر ديسمبر في مدينة بوزنان ببولندا، إذ اجتمع وزراء وخبراء المناخ من أجل التوصل إلى خطة عمل نحو المستقبل، وكانت المفاوضات صعبة، ومن المتوقع أن تزداد صعوبة، فقد زعم البعض أننا لا نستطيع أن نتحمل تكاليف التعامل مع قضية تغير المناخ، وأنا أقول إننا لا نستطيع أن نتحمل تكاليف التقاعس عن التعامل مع هذه القضية، وبات مستقبل كوكب الأرض على المحك.والاختبار الثاني يتسم بطبيعة اقتصادية، إذ إننا في حاجة واضحة إلى حافز عالمي، فقد استجابت القوى الاقتصادية الكبرى للأزمة الحالية بخطط إنقاذ مالية ونقدية طموحة، وأظهر اجتماع زعماء مجموعة الدول العشرين في واشنطن في نوفمبر أن الحكومات تعمل على نحو متآزر من أجل تنسيق السياسات والخطط، وتوسعت هذه الجهود بموجب اجتماع لاحق استضافته مدينة الدوحة.كل هذا موضع ترحيب، ولكن يتعين علينا أن نبذل المزيد من الجهد، فنحن في المقام الأول نحتاج إلى قدر من التفكير الجريء الجديد، وإذا كان لنا أن نستغل مواردنا في الخروج من الأزمة المالية، فيتعين علينا أن نتعامل معها بذكاء، وهذا يعني أن إنفاقنا في هذا السياق لابد أن يكون في هيئة استثمارات، ولابد أن يكون أيضاً قادراً على الاستمرار، حتى لا يكون الأمر وكأننا نلقي بأموالنا على المشاكل، بل نستخدم هذه الأموال بدلاً من ذلك في إرساء الأسس اللازمة لبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.الحقيقة أن الصين أظهرت قدراً عظيماً من الزعامة في هذا السياق، فإن ثلثاً كاملاً من برنامج التحفيز الاقتصادي الذي أعلنته الصين بقيمة 586 مليار دولار أميركي سوف يصب في النمو الأخضر والبنية الأساسية الخضراء. لقد اغتنمت الصين الفرصة لمعالجة العديد من التحديات في آن واحد: خلق فرص العمل، والحفاظ على الطاقة، ومكافحة تغير المناخ، والولايات المتحدة تخطط تحت زعامة الرئيس باراك أوباما للقيام بالشيء نفسه.إن صناع القرار هؤلاء يدركون أن الاستثمار في أنواع الوقود البديلة والتكنولوجيات الصديقة للبيئة سيعود علينا في المستقبل بفوائد عظيمة من حيث البيئة الأكثر أماناً، والاستقلال في مجال الطاقة، والنمو المستدام، بيد أنهم يدركون أيضاً أن الاستثمار الأخضر قادر على خلق فرص العمل وتحفيز النمو في وقتنا الحاضر، ويتعين على بلدان العالم الأخرى أن تسير على الـخُطى نفسها، فلن يتسنى لنا أن نؤذن ببداية عصر جديد من الرخاء المستدام في غياب دفعة عالمية ضخمة، حيث تتحرك دول العالم كافة في الاتجاه نفسه، وإن كان لدينا أي وقت للرؤى الجريئة الطموحة- الفرصة لرسم مسار جديد وأفضل- فهو الآن وليس غداً.أما الاختبار الثالث فينبع من مبدأ عملي، فالأزمات التي نواجهها لا تقتصر على تغير المناخ وتأزم التمويل العالمي، ولكن الواقع أن هاتين الأزمتين من الأسباب التي أدت إلى تفاقم تهديدات أخرى: انعدام الأمن الغذائي، وتقلب أسعار الطاقة والسلع الأساسية، واستمرار الفقر على هذا النحو الرهيب، ولم تفلت أي أمة من هذه التهديدات، بيد أن البلدان الأشد فقراً هي الأكثر تعرضاً للضربات.إن أزمة اليوم المالية قد تتحول إلى أزمة إنسانية في الغد ما لم نتعامل معها على الوجه السليم، فقد تنمو القلاقل الاجتماعية ويتعاظم عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تفاقم المشاكل الأخرى كافة، ومكمن الخطر هنا أن يتحول ذلك كله إلى سلسلة متعاقبة من الأزمات العالمية التي ستُبني كل منها على الأخرى، وستكون العواقب المحتملة مدمرة للجميع.لذا، يتعين علينا أثناء العام المقبل أن نعمل بروح من التضامن العالمي، والتدابير التي سنتخذها لمعالجة الأزمة المالية لابد أن تصب في مصلحة بلدان العالم كافة، لاسيما الأشد فقراً والأكثر ثراءً وقوة على السواء، ومن الأهمية بمكان أن تشكل برامج المساعدات الموجهة إلى البلدان النامية جزءاً من أي حافز عالمي أو خطة بعيدة المدى لإنعاش الاقتصاد العالمي، وهذا يعني على أقل تقدير عدم استغلال الأزمة المالية كذريعة لتقليص المساعدات الدولية ومعونات التنمية، بل يتعين علينا أن نحترم التزاماتنا في إطار الأهداف الإنمائية للألفية باعتبارها تدبيراً عملياً ومسؤولية أخلاقية.إننا نقف الآن على أعتاب نوع جديد من التعددية، وبات «بندول» التاريخ يتأرجح نحو الأمم المتحدة والعمل الجماعي، والتحديات التي نواجهها اليوم كمجتمع دولي أصبحت بصورة متزايدة تقوم على المشاركة والتعاون: مكافحة تغير المناخ، وإعادة بناء النظام المالي العالمي، وتعزيز التنمية المستدامة.في هذا العالم المترابط المتشابك يكمن التحدي في إدراك العلاقة بين ثلاث مجموعات من المشاكل، ومن خلال البصيرة الثاقبة فإننا قادرون على إيجاد الحلول لكل مشكلة على النحو الذي يصلح لحل المشاكل الأخرى أيضاً، ولكن الأمر سيتطلب قدراً عظيماً من الزعامة الرشيدة لترجمة هذه الرؤية الشاملة إلى عملٍ، تماماً كما سيتطلب الأمر الزعامة من أجل موازنة مصالحنا الأطول أمداً في مقابل قضايا اليوم الملحّة الشرسة.* بان كي مون | Ban Ki-moon ، أمين عام الأمم المتحدة منذ 1 يناير 2007 ووزير خارجية كوريا الجنوبية سابق.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
من أجل نظرة ثاقبة
16-12-2008