هذا الموضوع الموسمي يفرض نفسه مع كل انتخابات رئاسية أميركية. ولا يبدو أننا نتقدم كثيراً على المستوى الرسمي. والأرجح أن الحكومات العربية لا ترغب ولا تستطيع ولا تعلم كيف تشارك في الانتخابات الأميركية. ولكن الأجيال العربية والمسلمة الشابه في الولايات المتحدة وكندا، بل وهنا أيضاً، اكتشفت معادلات لا بأس بها.

Ad

الموانع التقليدية

الإعاقات التي منعت الحكومات العربية من المشاركة أو التأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية كثيرة ومعروفة. هي حكومات لا تعرف عن الانتخابات إلا تزويرها والتلاعب فيها ومن ثم يصعب عليها أن تبادر للتأثير في انتخابات تبعد عنها بآلاف الأميال. وكانت النكتة الشعبية تقول في هذا أن الرئيس الأميركي «فلان» طلب مساعدة انتخابية من الرئيس العربي «علان» للفوز في الانتخابات الرئاسية ضد منافس عنيد لأن هذا الرئيس العربي يكتسح الانتخابات في بلاده بالنسب المعروفة. وقبل الرئيس العربي مسروراً تقديم المساعدة وذهب للاقامة هناك لمدة شهور وعندما أعلنت النتيجة فاز بنسبة ساحقة... الرئيس العربي! أما مَن هو الرئيس العربي الذي فاز في الانتخابات الأميركية؟ فالنكتة تغيره كل أربع أو ثماني سنوات تبعاً للحالة. ورغم تواطؤ النظم العربية، فإن أبسط علامة على محاولة التأثير على الانتخابات الأميركية ستجد في انتظارها حملة صهيونية كاسحة تساهم في مزيد من تسويد صورة العرب والمسلمين في الولايات المتحدة. وبكل أسف لم يفهم أكثر الزعماء العرب لفترة طويلة أن ثمة طرقاً أفضل بكثير للتأثير في الانتخابات الأميركية عن دفع مساهمات مالية. وكان الصهاينة ينتظرون بفارغ الصبر أن يكرر أي زعيم عربي هذا الخطأ لكي ينقضوا عليه وعلى مَن يناصره انقضاض الذئاب على فريسة مرتعشة. وكثيراً ما حدث أن اضطر سياسيون أميركيون حتى من الدرجة الثانية إلى إعادة المساهمات المالية لمؤسسات أو شخصيات عربية بعضها لا يملك أي تأثير في بلاده أو في الداخل الأميركي أكثر من المال.

وبالنهاية، فإن أكثر الإعاقات أهمية التي منعت إطلاق مبادرات خلاقة من جانب الرسميين العرب هي تفضيل إقامة وإدارة العلاقات مع أميركا على مستوى رسمي. ولا شك أن هذا الفهم يعكس الشعور بالعجز كما يعكس التحيز الذهني الناشيء عن طبيعة التجربة السياسية التسلطية للزعماء العرب في بلادهم. ويسأل أكثرهم نفسه: لماذا المشاركة التي تجلب لنا مزيداً من المتاعب طالما أننا نستطيع أن نتعامل مع أميركا من منطق المصالح، وأن ندير علاقاتنا مع أي شخص تحمله الانتخابات للمكتب البيضاوي على قاعدة المصالح؟

السؤال وجيه والإجابة النمطية مفهومة من وجهة نظر النظم التسلطية العربية. ولكن ثمة متغيرات مهمة تدعو بعض هذه النظم إلى إعادة حساباتها وقراراتها في هذا الموضوع. فلم يسبق أن قام واحد من الجالسين في البيت الأبيض بإعلان رغبته في «التخلص» من الزعماء العرب «التاريخيين» الذين عززوا وخدموا المصالح الأميركية في المنطقة. ويغلف جورج بوش هذه الرغبة بالدعوة إلى إجراء انتخابات نزيهة أو تطوير سياسات «ديمقراطية» في البلاد العربية الحليفة. ولكن جورج بوش الابن قد لا يبقى الوحيد الذي فعل أو قد يفعل ذلك. والواقع أن التدخل في السياسات العربية باسم الديمقراطية صارت عادة ذهنية أميركية بذريعة 11 سبتمبر. لذلك قد يفكر زعيم عربي أو آخر لماذا لا يتدخل هو أيضا في السياسات الداخلية الأميركية؟ وقد رد السيد جمال مبارك رداً قوياً على خطاب الرئيس جورج بوش في منتدى «ديفوس» بشرم الشيخ منذ اسبوعين بأن مصر «ستراقب» بدورها الانتخابات الأميركية.

ولم تكن الحكومات العربية تعرف في الماضي كيف تقوم بالتأثير في الانتخابات أو السياسات الأميركية الداخلية بسبب الافتقار إلى الخبرات. اليوم تتراكم لا الخبرات النظرية وحدها، بل والميدانية كذلك. ولدينا أعداد كبيرة من العرب والمسلمين الذين أثروا بمستويات وأشكال مختلفة على الانتخابات والسياسيات في أميركا، بل وكندا أيضا.

الشباب يكتشفون الطريق

وبلا شك فإن عملية المشاركة هذه لازالت في بدايتها، بل ولازالت بدائية بالمقارنة بما يمكن أن تكون عليه. ولا مجال للمقارنة في هذه المرحلة مع المنظمات الصهيونية. ولكننا نستطيع أن نقول بثقة إن الشباب العربي قد «اكتشفوا» الطرق المناسبة للمشاركة في الانتخابات الأميركية والتأثير عليها. فالعرب الذين يعدون بنحو مليونين إلى ثلاثة ملايين في الولايات المتحدة بدأوا، بتأثير من منظمات إسلامية وبدرجة ثانية عربية، التسجيل في الانتخابات الأميركية. وإن لم يكن التصويت العربي يشكل نصف التصويت اليهودي فلا بأس به لأنه يمكن، ويجب، أن يحصل على مقابل سياسي. وبينما وقعت أكثر المنظمات العربية في الولايات المتحدة فريسة الخلافات والتمزقات والصراعات المدوية والصامتة في الداخل العربي فبعضها صمد وقام بدور مشهود مثل «اللجنة العربية لمكافحة التمييز» أو «المعهد العربي». واثبتت التنظيمات الإسلامية التي تضم عرباً وغير عرب أنها أكثر ثباتاً وتاثيراً بل وخبرة. ولدينا الآن عدد من هذه المنظمات الفاعلة وعلى رأسها منظمة «كير» CAIR. ولكن الشباب العرب الأميركيين اكتشف أن العمل على مستوى التنظيمات القاعدية أمر لا غنى عنه للتأثير في السياسة الأميركية على مستوى القمة. وبعض هؤلاء الشباب صاروا قادة على مستويات سياسية ومدنية مختلفة. وهناك تيار آخر فاعل للغاية في صفوف العرب يمارس النضال ليس في تنظيمات السياسة والحياة اليومية الأميركية، بل من خلال تأسيس حضور قوي في الشارع أساسا من خلال المظاهرات والمسيرات. ويشترك تيار المشاركة وتيار النضال الثوري في الشوارع في أن كليهما صار «أميركيا» أي يعرف كيف يجب أن تمارس السياسة والفعالية في النظام الأميركي ووفقا للثقافة الأميركية.

ظاهرة أوباما

وفي الماضي كان بقية العرب ينظرون بتعجب وشيء من الرفض لهذا التيار من الشباب العربي الأميركي الذي أسس حضوره في الساحة السياسية هناك من خلال المظاهرات والمسيرات. فثقافتنا لم تشهد هذه الممارسة الاحتجاجية والسياسية ولم تحتضنها إلا لماماً. واليوم تفرض هذه الممارسة نفسها لسبب عجيب، وهو أن ظاهرة أوباما المرشح الأكثر حظاً في نيل ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الأميركية تطورت عن ظواهر وقوى كثيرة من بينها، بل وربما يكون على رأسها «الشباب الأميركي الغاضب» والذي يرنو لإنجاز ثورة حقيقية في السياسة الأميركية من خلال التظاهر السياسي.

وإن كان التأثير العربي محصوراً في الشباب العربي الذي طور خبراته من داخل الساحة السياسية والثقافية الأميركية وعلى الأرجح من خارج المؤسسات المهيمنة على السياسة الأميركية، فهل هناك دور ممكن للحكومات العربية المحافظة؟ وماذا يمكن أن يكون هذا الدور؟

لو أن هذه النظم اقتنعت بحتمية التأثير على الانتخابات الأميركية وأن هذا التأثير يجب أن يبدأ اليوم وليس غداً فهي تستطيع أولاً من خلال الحوار مع أطقم المرشحين للرئاسة وبالذات أوباما.

ويجب أن تبدأ هذه العملية على الفور.

وتستطيع النظم العربية أن تساهم وتؤثر بقوة ليس من خلال الدعم المالي للمرشحين، ولكن للتنظيمات القاعدية وبالأخص المدنية التي تلعب دوراً كبيراً في الانتخابات بتعبئة وتنظيم وتسجيل العرب الأميركيين للتصويت وقد تفاوض باسمهم مع المرشحين الكبار.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية