الكويت دأبت لزمن على اجتراح الريادة في منطقة الخليج، ولم يكن هذا محض قدر أو عوارض تفوق وجرأة فقط، لكنه أيضاً كان تعبيراً عن «فائض طاقة» يعتمل في مجتمع البلد وإنسانها، ويبحث عن مجال بناء ومشروع للاستثمار وتخفيف الاحتقان في آن. على أن هذا الفائض انصرف أخيراً وبعد الغزو تحديداً إلى داخل مكتظ ومأزوم وشديد المحدودية؛ حتى بات البحث عن الصراع هدفاً في حد ذاته للتخفيف من عوارض حبس الطاقات وكتمانها.

Ad

قبل سنوات عدة، كانت حكومة دولة خليجية واعدة تجتهد لاستكمال أسباب العصرية بتطوير شكل من أشكال التمثيل النيابي، عبر جلسات عصف ذهني متواصلة، ضمت مسؤولين وأفراداً نافذين في النخب، بهدف التوصل إلى صيغة مثلى تحقق الاستيفاء الإجرائي للخطوة المطلوبة، من دون تعريض الوضع المستقر المزدهر لهزات، أو التسبب بجلب أضرار غير محسوبة.

ووفق ما رشح من هذه الجلسات لاحقاً، فقد كان ثمة اتجاهان رئيسان يهيمنان على النقاش؛ أولهما رأى ضرورة البدء من النقطة التي انتهى إليها الآخرون في دول الخليج ذات البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المشابهة، فيما طرح ثانيهما فكرة بدء الطريق من أوله ومن أكثر النقاط احتشاماً ومحافظة، واتباع سياسة الـ «خطوة خطوة»، مع القياس المستمر لتداعيات التفاعلات الناتجة، واتخاذ الأسباب اللازمة لتأمين الأوضاع، حتى لو اقتضى الأمر الرجوع عن الفكرة برمتها.

لكن الازدهار الذي ميّز تلك الحقبة في دول الخليج عامة، والاستقرار المقيم في الدولة المعنية بذلك الاجتهاد على وجه الخصوص، وتمتع حكومتها بحال رضا تكاد تكون قياسية في المنطقة، شجع أصحاب الاتجاه الأول على الاستئثار بالخط العام للنقاش، وقيادته نحو فكرة تحقيق «قفزة واسعة على طريق الديمقراطية، يُؤرخ لها على سبيل الريادة»، على حد وصف أحد عرابي ذلك الاتجاه.

والواقع أن التجربة الكويتية كانت الغائب الحاضر طيلة تلك الجلسات، بالنظر إلى كونها الأقدم والأكثر تكاملاً وتمتعاً بالزخم في منطقة الخليج وبعض مناطق العالم العربي الأخرى. والواقع أيضاً أنها كانت عنصر إلهام محوري، واستطاعت وحدها دحر أصحاب خيار «القفزة الواسعة»، بعدما وفرت للأكثر محافظة بين صانعي القرار كل ما يمكن أن يحلموا به من ذرائع للبدء من نقطة متواضعة، وإتاحة الفرص للتفاعل الاجتماعي والسياسي المحسوب والمقنن والمسيطر عليه بالكامل، قبل أن يتم التقييم الشامل، ويُتخذ القرار؛ إما بالنكوص، أو التوقف، أو التقدم خطوة أخرى محسوبة ومحدودة إلى الأمام.

كانت الحجة الرئيسة التي دعمت موقف الأكثر محافظة بين صناع القرار بتلك الدولة تنطلق من معادلة بسيطة؛ مفادها: «إن كلفة العودة عن صيغة ديمقراطية معلنة وفعالة، بسبب أضرار نجمت عن تطبيقها، أكبر بكثير من كلفة الامتناع المبدئي عن تطويرها، أو تأجيلها لأجل مقبل غير مسمى».

ويبدو أن ما حدث في هذه الدولة الخليجية قد حدث في دول أخرى مشابهة، ويرجح في هذا الصدد أن تجربة الكويت كانت عنصر إلهام سلبي أيضاً، ومن غير المستبعد أن كثيرين في الكويت وخارجها، ربما تمنوا لو عادت عجلة الزمان إلى الوراء، وتسنى للديمقراطية الكويتية أن تنتهج سياسة الـ «خطوة خطوة»، بدلاً من اجتراح الريادة وتكبد تكاليفها.

لكن الكويت دأبت لزمن على اجتراح الريادة في تلك المنطقة، ولم يكن هذا محض قدر أو عوارض تفوق وجرأة فقط، لكنه أيضاً، وفي الأساس، كان تعبيراً عن «فائض طاقة» يعتمل في مجتمع البلد وإنسانها، ويبحث عن مجال بناء ومشروع للاستثمار وتخفيف الاحتقان في آن.

على أن فائض الطاقة هذا انصرف أخيراً وبعد الغزو تحديداً إلى داخل مكتظ ومأزوم وشديد المحدودية؛ حتى بات البحث عن الصراع هدفاً في حد ذاته للتخفيف من عوارض حبس الطاقات وكتمانها. ولما كان مجلس الأمة ميداناً رحباً ومثالياً للصراع، فقد تحول الميدان الأساس لصرف الطاقات الزائدة على مدى نحو عقدين من نزاعات الانتخابات والاستجوابات والحل.

وكالمعتاد، ما إن أعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة حتى بدأت المعارك بين «المجلس» والحكومة، لتواصل ما كان قد حدث من صراعات ومعارك أثناء العملية الانتخابية وقبلها، ولتتواصل فلا تبدو لها نهاية أو وقت مستقطع للراحة والتقاط الأنفاس. صراعات هكذا محضة من دون أجندة أو أهداف قابلة للتحقق أو خيارات للتهدئة أو الحل.

هل تُحل الحكومة؟ هل يُحل المجلس؟ السؤالان الأكثر تردداً في المجالس والديوانيات والإعلام. سؤالان يعبران عن جماعة وطنية لا تجد في التأزيم سوى صورة للوضع الأمثل للكمال، وتعتبر الصدام الرياضة الشعبية الأولى، وتأخذ من السياسة تنازعها دون مصلحيتها، ومن القبيلة عصبيتها دون حكمتها، ومن القانون حدته دون روحه، ومن الوطنية مشروعاً للخصام لا بوتقة للالتقاء.

فائض الطاقة الكويتية ذهب مالاً في الاستثمارات الخارجية تاركاً الداخل دون ما يكفيه ويليق به من استثمار، وانعكس إعلاماً مسجلاً أكبر عدد من الوسائل المتكالبة على رقعة صغيرة وإطار قضايا محدود وعدد سكان قليل، وتُرجم سياسة قائمة على التصيد والتربص والتلاسن وإدامة الصراع عوضاً عن تبادل المصالح والتمثيل المتوازن وإدراك الحل الوسط.

هناك الكثير مما يدلل على فكرة فائض الطاقة الكويتية خصوصاً إذا ما قورنت طاقات البلد بمثيلاتها في بلدان الخليج العربية. أظهرت الكويت هذا الفائض حين طورت بنيتها التشريعية المتطورة، وحين مدت يد العون والمساعدة لشقيقاتها قبل أن يجود النفط بخيراته، وحين تحولت شعلة منيرة ثقافياً وحضارياً على الساحل الغربي للخليج لعقود، وحين حاولت لعب أدوار قومية احتاجت طاقة وجهداً عز على دول أكبر حجماً وكتلة أن تبذله.

لكن الاكتفاء بالذات، والانكفاء على الداخل، لم يتركا للطاقة الكويتية الفائضة سوى التعاطي الخشن غير الخلاق داخلياً، وهو أمر أشبه كثيراً بوضع أفراد ذوي اعتداد بالذات وبأس نسبي ورغبة في التمتع بالثراء والنفوذ وهمة عالية في حلبة لاتكاد تسعهم في حال السكون، فلا يجدوا مفراً من استهلاك طاقاتهم الفائضة في الصراع الداخلي المجاني عوضاً عن خسارة أحلامهم العريضة.

حين سُمح، بعد انقطاع طويل، بالتقدم للحصول على تراخيص لإصدار صحف جديدة، تقدم أكثر من مئتي راغب في إصدار جريدة. وباتت الكويت اليوم تحظى بأكبر عدد من الصحف اليومية مقارنة بعدد السكان في المنطقة كلها وربما في مناطق مختلفة أخرى من العالم، ومازال السباق على إطلاق القنوات الفضائية محتدما، والأهم أن معظم القنوات الفضائية والصحف والمواقع الإلكترونية القائمة والعتيدة لا تستهدف بمحتواها سوى الداخل المحدود والمشبع بطبيعته.

لا يدلل هذا السباق الكبير على امتلاك وسيلة إعلامية على اتساع هامش الحريات أو زيادة جدوى الاستثمار في الصناعة أو الرغبة في تنوير المواطنين وخدمتهم على صعد التثقيف والترفيه والإخبار، ولكنه يدلل على أن «فوائض الطاقة» المحبوسة تبحث عن أي منفذ للتعبير والاشتباك والبرهنة على الوجود.

إذا لم تجد الجماعة الكويتية الراشدة مجالاً لاستيعاب فوائض الطاقة الظاهرة والكامنة واستثمارها في ما هو جاد ومفيد، سواء في الداخل أو الخارج، فالأمر قد لا يقف عند أزمات بين الحكومة والبرلمان، تنتهي بحلهما كليهما أو أحدهما، لكن ربما يمتد إلى ما هو أخطر وأعظم شأناً.

* كاتب مصري