يُتهم الوعي العربي عادة بأن وعيه بالزمان غائب، لذلك يخاطر العرب بأن يكونوا خارج التاريخ، في حين أن الغرب هو الذي وضع فلسفة التاريخ في عصوره الحديثة، وإذا حضر الزمان فإنه يكون حضوراً ماضوياً، الإحساس بالعصر الذهبي الأول والحنين إليه والرغبة في العودة إليه هربا من الحاضر ويأسا منه. وإن حضر الحاضر فالأفعال في الزمان تتسم بعدم الدقة والتحديد. «سأمر عليك غدا» دون تحديد الوقت بالدقة. تضطرب مواعيد الطائرات والقطارات، ولا تؤدى الأعمال في أوقاتها كما تريد الشريعة في العبادات. فكل أعمالها في الزمان، الصلاة والصيام والحج والزكاة. بل إن التشهد هو فعل وقتي يتم في كل لحظة يحتاج الأمر فيه إلى شهادة. الصلاة خمس مرات يوميا يتم أداؤها في أوقاتها لا قضاء خارج أوقاتها، وعلى الفور وليس على التراخي، والزكاة على الأقل مرتان في العام أيام العيدين. والصوم والحج مرة في العام في وقت معلوم. ولو سئل العربي في أي مرحلة من التاريخ هو يعيش؟ لاستعصت الإجابة، هل هو في العصر الوسيط أم في العصر الحديث؟ هل هو في عصر الإصلاح الديني أم في عصر النهضة؟ هل هو في عصر الثورة أم في عصر الثورة المضادة؟ هل هو في عصر الإفلاس التاريخي أم في عصر التراكم التاريخي لمرحلة قادمة؟
وفي القرآن الكريم مفاهيم عديدة للزمان. الزمان الكوني مثل الليل والنهار، والفجر والضحى والعصر، والشروق والغروب، واليوم والغد، والساعة والآن، والدهر والعهد. ومن ضمن هذه المفاهيم «القرن».وقد ورد لفظ «القرن» في القرآن الكريم عشرين مرة، ثلاث عشرة مرة جمعا وسبع مرات بالمفرد مما يدل على أن القرن قرون، وأن القرون أعمار الشعوب وأزمان الأمم، فالشعوب لا تعيش زمانا واحدا، والأمم لا تعيش قرنا واحدا. والمعنى الأول في مفهوم القرن هو انهيار الزمان وهلاك الأمم أي انهيار التاريخ بعد قيامها ونهضتها. فالتقدم ليس دائما «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ». تلك سنة التاريخ. ومهما بلغت الأمة من غنى وثروة وحضارة فإنها لا تبقى إلى الأبد. ففي الغنى فسادها وهلاكها كما هي الحال في المجتمعات الرأسمالية، «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا». ومهما بلغ قوم من قوة وبطش إلا أنهم أيضا يهلكون. فالقوة ليست دائمة. والبطش ليس مستمرا «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا». وذلك مثل المجتمعات العدوانية، النازية والفاشية والصهيونية. ومهما بلغ شعب من عدد وكثرة إلا أنه يهلك أيضا. فالكم لا يغني عن الكيف «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا». فقد انهارت الصين القديمة، وتنهض من جديد الصين الحديثة، ومن يدري ما مصير هذا الفائض من الإنتاج الذي يغزو العالم. وفي نفس الوقت الذي تنهار فيه الأمم تنشأ من جديد، نشأة ثم انهيار، وانهيار ثم قيام من جديد «ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ». وقد تطول هذه النشأة والقيام والنهضة ولكن مآلها إلى الانهيار «وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ». فتختلف أعمار الحضارات بين القصر والطول. الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى دامت سبعة قرون، من القرن الأول حتى الثامن، عصر ابن خلدون. والحضارة الغربية الحديثة دامت أيضا سبعة قرون، من القرن الرابع عشر، عصر إحياء الآداب القديمة، حتى القرن العشرين وأزمته وعدميته. كما دامت الحضارة اليونانية القديمة سبعة قرون من القرن الخامس قبل الميلاد حتى القرن الثاني بعده في العصر الهللينستي.ويتطلب هذا القيام والانهيار للحضارات إحساسا ووعيا، فهما ليسا حدثين تاريخيين بل فعلين من أفعال الوعي، لذلك تبدأ الآية بفعل «أَلَمْ يَرَوْا»، «أَوَلَمْ يَعْلَمْ». فهما عبرة وعظة وهداية «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ»، وتدل الآثار عليهم. فالتاريخ وعي وإحساس «وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ».وهو قانون تاريخي حتمي لا فرار منه «كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ»، فعمر التاريخ مثل عمر الأفراد، وزمن الشعوب مثل زمن الأشخاص، ويصدّق التاريخ هذا القانون لقيام الشعوب وانهيارها منذ القرون الأولى ونشأة الحضارات «قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى». ولا وعد بالبقاء إلى الأبد «أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي». وتاريخ الأنبياء شاهد على ذلك، وهلاك الأمم من بعد نوح «وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ» في القرن الأربعين قبل الميلاد ثم تلته قرون عاد وثمود «وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا». ثم قام موسى بالكتاب لينهض من جديد «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى».والأمة هي المسؤولة عن قيامها وانهيارها بالرغم من حتمية القانون. لكل أمة ذنوبها، وهي المسؤولة عن الانهيار «فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ». والظلم أيضا مسؤول «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا». والفساد أيضا مسؤول مع الذنب والظلم «فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ». ويغيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتذكير بالذنب والظلم والفساد.ليست القضية إذن هي العودة إلى العصر الذهبي الأول والحنين إليه في القرون السبعة الأولى بل بداية دورة جديدة للحضارة الإسلامية في القرون السبعة القادمة التي بدأت منذ قرنين من الزمان منذ حركات الإحياء والإصلاح الديني والنهضة الحديثة لإنهاء الانهيار بعد ابن خلدون. ويتطلب ذلك الوعي بقانون التاريخ ثم الحركة فيه، بداية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الشهادة على العصر والعمل على تغيير ما فيه من ظلم وفساد، وقهر واستغلال.* كاتب ومفكر مصري
مقالات
القرن والتاريخ
06-10-2008