كلما أعود الى قراءة أخبار عائشة بن طلحة تسحرني، تجعلني أقول إنها سبقت زمنها، كانت «مودرن» في القرون الوسطى، تسحرنا عائشة بجمالها الذي نتخيله الآن وتغوينا بأخبارها التي يمكن أن تكون رواية أحسن من كاتبها وأكثر حضورًا، عائشة التي رباها أبوها على عزة النفس والإعتزاز بأنوثتها وعلمها وأدبها كانت إحدى «سيدات» عصرها، تقرأ الشعر وتتذوقه وترويه ولها مجلس أو ندوة أدبية يُدعى إليها الشعراء والأدباء وسادة القوم.

Ad

يروي ابن إسحاق عن أبيه: دخلت على عائشة بنت طلحة بن عبيد الله وكانت تجلس وتأذن كما يأذن الرجل.

قال أنس بن مالك لعائشة بنت طلحة: يريد القوم أن يدخلوا اليك فينظروا إلى حسنك ! قالت: أفلا قلت لي فألبس حسن ثيابي.

لقد أسهب كتاب السير والمؤرخون في الحديث عن افتتان الرجال بجمالها وقوة شخصيتها ووضع الملايين والجواهر تحت قدميها كي تقبل بالزواج منهم. على رغم أنها لم تنجب إلا ولداً واحداً طوال حياتها، وهذا كان ينتقص من قدر المرأة وقيمتها في المجتمعات العربية، فإنها كانت لا يرد لها كلمة، بل إن أحد أزواجها أيقظها من نومها كي يهديها جواهر عدة فما كان منها إلا أن صرخت فيه بأن النوم كان أعز عليها من هذه الجواهر التي ألقاها في حجرها.

كانت مترفعة وتحتقر المال، لهذا كانت ترى في النوم سلطانًا، مثل هذه العبارة يمكن أن يكون شعارًا لهذه المرحلة، إذ باتت العلاقات الإنسانية قائمة على مبدأ ما في جيوب الناس.

«النوم أعز علي من الجواهر»، كم هي سلطانة عائشة التي دخلت على والديها يوماً فوجدت والدها حزيناً شارداً فسألت أمها: ما بال أبي؟ فوجهت الأم السؤال إلى الأب فلم يجبها. فقالت: أرى بك شيء من أهلك فتعتب؟ فقال طلحة بن عبيد الله: نعم حليلة المرء أنت، لكنْ عندي مال قد أهمني أو أغمني. قالت الزوجة سعدي بنت عوف: أقسمه وتصدق به. فدعا طلحة جاريته وقال لها: أدخلي عليّ قومي.

دعت الجارية بني تيم قوم طلحة، فقسم المال (وكان أربعمائة ألف) بينهم حتى ما بقي منه درهم. نظرت عائشة الى أبيها وبكت وهي تدعو له بالبركة والجنة.

أين نساء اليوم من عائشة ومن ثقتها بنفسها، يروي أبو فرج الأصفهاني «كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، فعاتبها مصعب (ابن الزبير زوجها) فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس، ويعرفون فضلي عليهم، فما كنت أستره، والله ما فيَّ وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد». لا يجرأ على نقل مثل هذه الصورة الحدث إلا أديب تحرر من قيود المجتمع بعض الشيء، ولم يعد سفور الوجه مثلبة على السافرة، فقد غض صاحب الطبقات الكبرى ابن سعد وغيره من المؤرخين النظر عن مثل هذه الرواية، التي تؤشر إلى تقدم الماضي على الحاضر. تفصح عائشة عن ثقتها بنفسها حين ردت على نظر شخص يدعى ابن أبي الذئب وهي تطوف حول الكعبة بالقول:

مِنَ اللاء لم يحججنَّ يبغينَ حسبةً

ولكن ليقتلنَّ البريء المغفلا