أحداث عكّا الأخيرة، حيث هاجمت قطعان اليهود المتعصّبين أهلها العرب واعتدت عليهم وعلى ممتلكاتهم ومنازلهم، أثبتت كذب ان دولة إسرائيل واحة ديمقراطية في صحاري الشرق الأوسط التي لا تُنبت إلا العوسج والزقّوم، وأكدت ان هذه الدولة إن لم تكُن كلها عنصرية، فإن ثقافتها المستمدة من التعاليم التلمودية التي تحض على كره الآخرين، هي التي تحرك سياساتها وتتحكم بمواقفها وتحدد اتجاهاتها الداخلية والخارجية.

Ad

هناك مَثَل قديم قِدم هذه المدينة التاريخية، التي اندحر أمام صمودها وصمود أهلها نابليون بونابرت الذي وصل بجيوشه الى مشارف موسكو، يقول «عكّا لا تخشى هدير البحر»، وحقيقة ان أمواج الحقد الإسرائيلي بقيت ترتطم بصمود مدينة أحمد باشا الجزّار وتعود متكسّرة وخائبة، كما بقيت ترتطم أمواج البحر الأبيض بأسوارها المنيعة وترتد عنها منذ بدء الخليقة وحتى الآن.

في زمن يعود إلى بدايات ثمانينيات القرن الماضي، حدثني الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش خلال لقاء جمعنا في لندن لنحو أسبوعين، كثيراً عن مدينة عكّا وأسوارها وقمرها الذي قال ان صورته المنعكسة على سطح البحر في لحظة هدوء واستقرار، أغْرَته بالقفز من فوق الأسوار الصخرية المرتفعة ليحتضن تلك الصورة الجميلة التي تُغري أي عاشق برؤية وجه محبوبته فيها، لكنه كما قال تذكر فجأة وهو يجمِّعُ نفسه لينفذ ما كان عقد العزم على تنفيذه بأن «عكا لا تخشى هدير البحر»، وأن كثيرين انتحروا بالقفز من فوقها نحو الأمواج المتلاطمة عند أقدام هذه الأسوار، فتراجع عمّا كان قد صمّم عليه.

محمود درويش من قرية تُسمى «البروة»، تقع على بعد مرمى حجر من عكا كما يُقال، كانت ذات يوم بعيون أهلها المزارعين الذين اعتادوا الكدْح في الحقول من الفجر حتى النـَّجر، جميلة وحلوة، وهي الآن أصبحت مجــرد ذكريات بعيدة بعد ان أزالها الغُزاة الحاقدون، كما أزالوا قُرى عربية كثيرة كانوا يعتبرونها بقناطرها و«طوابينها» و«حواكيرها» وثائق على ان هذه البلاد ليست لهم، وأن حكاية الأرض الموعودة التي تفيض لبناً وعسلاً كذبة كبيرة.

منذ عام 1948 وأهل عكا ممنوع عليهم ترميم منازلهم القديمة، وممنوع عليهم بناء منازل جديدة، لقد تهدمت الجدران فوق رؤوسهم، لكنهم بقوا صامدين يواجهون ضغط الإسرائيليين، الذين أكثر ما يخيفهم ان تُكتشف حقيقة كذبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، بتلك الصرخة التاريخية القائلة «إن عكا لا تخشى هدير البحر»، وإننا هاهنا باقون وإن هذه المدينة مرَّ عليها غزاة كثيرون كلهم غادروها مهزومين وأكلهم النسيان، بينما بقيت هي صامدة تغسل جدائلها الكنعانية التي تشبه قطيع ماعز على جبال جلعاد بأمواج البحر الأبيض المتوسط الفضية.

قبل فترة قال إيهود أولمرت متحسراً «إن الإسرائيليين خسروا حلمهم التاريخي»، وحقيقة ان ما جرى في عكّا في يوم غفرانهم وبعد ذلك، وتحوّل المستوطنين الى دويلات قَتَلة ومجرمين داخل الدولة الإسرائيلية، يُثبت فعلاً ان هذا الحلم اليهودي بات يتبدد وأنه اقترب من النهاية.

* كاتب وسياسي أردني