قضية الإصلاح بين الشرق والغرب (1-4)
يعني الإصلاح لغة، إزالة الفساد عن الشيء، وتوفيق الإنسان إلى ما يوافقه ويحقق مصلحته، وفي الأرض يكمن إصلاحها في تحويل الجدباء منها إلى صالحة للزراعة، أما «الإصلاح الزراعي» فانطوى في التجارب الاشتراكية على تقييد الملكية الزراعية، بحيث لا تتجاوز حداً معينا، مع تعويض من نزعت ملكية بعض أرضه أو كلها تعويضاً عادلاً ومناسباً، ثم تنظيم العلاقات الاقتصادية الخاصة بالزراعة وأحوالها. ومن الناحية السياسية، لم يزد معجم «بلاكويل» للعلوم السياسية في تعريفه للإصلاح على القول إنه: «مصطلح واسع الانتشار، يطلق على التحسينات، أو على إلغاء سوء التصرف والعيوب، وُيترك للمؤرخين تقرير ما إذا كانت الإصلاحات قد حسنت الأمور بالفعل من عدمه، وعلى كل فإن الإجابات لابد أن تكون ذاتية غير موضوعية، على أنه لا يمكن إنكار حدوث تغييرات كبيرة في بعض العهود، وفي بريطانيا تقترن برامج الإصلاح بالحكومة الليبرالية قبل 1914، وحكومة العمال بعد 1945 وتقترن في الولايات المتحدة برئاستي فرانكلين روزفلت وليندون جونسون».
أما بالنسبة للناحية الدينية فقد شهدت أوروبا حركة إصلاح كبيرة، تمثلت في ثورة مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي، التي انطلقت شرارتها منذ لحظة زيارته إلى كنيسة روما، ورؤيته الفساد يضرب في جنباتها، ورمت هذه الثورة في البداية إلى تصحيح ما اعوجّ، فطرح لوثر ستة وتسعين مطلبا لعملية الإصلاح هذه، لكن حركته لم تلبث أن تحولت إلى حركة عقائدية كاملة، تنافس الكاثوليكية، وتخصم من رصيدها، وتتحداها، عرفت باسم «البروتستانتية، التي أخذت تنتشر في معظم ألمانيا، واكتسحت الدول الاسكندنافية، وصارت لها جيوب في فرنسا، وأطلقت على نفسها في إنكلترا اسم «الكنيسة المشيخية»، ثم بدأت أعداد تابعيها تتزايد في أوروبا الشرقية.وقد انصرف الإصلاح البروتستانتي إلى نواح علمية وفلسفية واجتماعية وسياسية، حتى صار يشكل الحد الفاصل بين العصور الوسطى والزمن الحديث في أوروبا، لاسيما مع فصم الارتباط بين الأرسطية والمسيحية، والإقبال على العلم الجديد، الذي يساعد الإنسان على استعادة مجده ومعرفته، وجاء كالفن خليفة لوثر ليرفع من شأن الفلكيين ويعتبرهم الأقرب إلى عقل «الرب»، وقال قولته الشهيرة: «إن آيات سفر التكوين، والمزمور التاسع عشر، ليست صياغات علمية، ولكنها عبارات أدبية تناسب غير العلماء». وفي الجانب الديني قامت البروتستانتية على إلغاء الوساطة بين الإنسان وربه، وأقرت بحق الفرد في أن يقرأ الإنجيل ويفهمه دون مساعدة من رجل دين، فيصير الشخص هو قس نفسه، بل هو البابا ذاته. وعلى التوازي ظهرت جماعات إصلاحية أخرى، مثل حركة إرازموس، الذي سبق لوثر في أفكاره، لكنه لم يبلغ مبلغه في معاداة الكنيسة الكاثوليكية حرصا على وحدة العالم المسيحي، بل دعاها إلى العودة إلى صفاء المنابع المسيحية الأولى التي تنشغل بمبحث الأخلاق، وجاء المصلحون الراديكاليون، فدعوا إلى الفصل التام بين الكنيسة والدولة، وانقسم هؤلاء إلى اتجاهات عدة، فبعضهم دعا إلى تجديد العماد والانتظام في جماعات صغيرة على طريقة الحواريين الذين كانوا يلتفون حول السيد المسيح عليه السلام، مثل الإخوة السويسريين Swiss Brothers وجماعة الهتارايت Hutterites والمينونايت Mennonites.وهناك الروحانيون مثل كاسبر شفنكفيلد وسباستيان فرانك وتوماس مينزر وأندرياس كارلستات الذين نادوا بأن تكون الصلاة لله مباشرة دون المرور بالقساوسة، ويوجد العقليون الذي دعوا إلى إعمال العقل في تدبر الإنجيل، ورفضوا بعض المسائل العقدية مثل ألوهية المسيح والفداء. وفي القرآن الكريم ارتبط مصطلح «الإصلاح» بثلاث قضايا: الأولى هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما عبرت عنه الآية الكريمة التي تقول: «إنْ أُرِيدُ إلَّا الْإصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أنِيبُ». والثانية هي إحلال السلام والمودة بين الناس أو «إصلاح ذات البين»، وهو ما تظهره الآية: «لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً».أما الثالثة فترتبط بالتجليات الاجتماعية والسياسية لنظرة القرآن الكريم إلى قضية الإصلاح في الواقع المعيش، وهو ما سنتناوله في المقال المقبل.* كاتب وباحث مصري