«تعتبر قضية التجديد الديني مسألة مطروحة منذ عقود بعيدة، خصوصاً من قبل رواد مدرسة الإصلاح الديني التي تبناها إسلاميون عقلانيون مثل الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم، والتي تمثلت جهودهم في القرون الحديثة في محاولات لعقلنة الفكر الديني، من خلال الدعوة إلى الاختلاف وعدم التقيد بمذهب واحد، فاتخذ دعاة التجديد مسلكاً إصلاحياً يدعو إلى فتح باب الاجتهاد لتيسر لهم قراءة النصوص الدينية قراءة جديدة تتواكب مع تحديات العصر وتُوائم طبيعته من خلال دمج التفكير العقلاني في الثقافة الاسلامية التقليدية. لقد كان لهؤلاء المجددين دورهم الفعال في عقلنة الخطاب الديني، واليوم تصبح الضرورة أكثر إلحاحاً لمثل هذا النوع من الإصلاح، انطلاقاً من كونه المفصل الأساسي الذي يفصل العالمين العربي والإسلامي عن العالم المتقدم. «ليس هناك خطاب ديني جديد من دون إصلاح سياسي شامل» وفق ما جاء في دراسة بعنوان «إعلان باريس حول سبل تجديد الخطاب الديني» أعدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في أغسطس 2003».

Ad

مما لا شك فيه أن منبع التطرف هو الفكر والغلو فيه، ويعتبر الغلو من أخطر الأمراض الفكرية التي يصاب بها العقل البشري على مدار التاريخ الإنساني. فقد تعرضت المجتمعات الإنسانية لهذا المرض في المراحل التاريخية المختلفة والمتعددة، ولم تكن المجتمعات الإسلامية استثناءً من هذه الظاهرة التي نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام فقال: «إياكم والغلو في الدين فإن ما أهلك مَن كان قبلكم الغلو في الدين»، فأصحاب الفكر المغالي يرفضون الآخر، وينبذون المختلف، ويتبنى هذا الفكر مفاهيم عدة من ضمنها: أن برنامجهم «صادق مطلق وأبدي، ويصلح لكل زمان ومكان، ولا مجال لمناقشته ولا للبحث عن أدلة تؤكده أو تنفيه، والمعرفة كلها بمختلف قضايا الكون لا تستمد إلا من خلال هذا المعتقد من دون غيره، ويجب إدانة كل اختلاف عنه، وفرض هذا الفكر على الآخرين ولو بالقوة»، حسبما ورد في ورقة عمل للدكتور علي فهد الزميع بعنوان «التطرف الديني... الجذور والأسباب»، وهي الورقة التي قدمها أمام ندوة نظمها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في ديسمبر 2002 بعنوان «التطرف والتسامح: رؤية واقعية».

الجنوح والغلو

وقد برزت تيارات التطرف والغلو الإسلاموي في السنوات العشرين الأخيرة، وهي تيارات متعددة ومختلفة تجنح إلى تكفير المجتمعات المعاصرة ووصمها بالجاهلية، وتدعو إلى مخاصمة واعتزال نظمها وقوانينها، بل والتصارع معها من خلال العنف المسلح وغير المسلح. وهي تيارات يدّعي كل منها أن منهجه وحده هو الإسلام الحق، فالأحداث الإرهابية في السنوات الأخيرة على خطورتها، هي ليست مجرد أحداث فردية منعزلة، كما يصفها كثير من المسؤولين، بل هي مشكلة اجتماعية-سياسية-فكرية نمت وترعرعت من خلال البيئة التي تغذيها، لذا فالمصلحة الكبرى لمراجعة وتجديد الخطاب الديني هي مصلحتنا في المقام الأول وقبل مصلحة الآخرين، من خلال معالجة أسباب التطرف الديني وجذوره معالجة علمية وواقعية.

إشكاليات وتحديات

هناك في الحقيقة إشكاليات عدة أدت إلى جنوح بعض الإسلامويين نحو التطرف:

الإشكالية الأولى، تتلخص في الواقع بفصل النصوص الدينية وإخراجها من سياقها الزمني والتاريخي، وتعميمها وتأويلها، وتفسيرها من خلال التمسك المطلق بالمنهج الحرفي والانتقائي من دون الأخذ بمعرفة أسباب النزول، وهو الأمر الذي أدى إلى تبني مفاهيم تدعو إلى الانغلاق والانعزال، فتفسيرات هذه النصوص هي اجتهادات بشرية قد تخطئ وقد تصيب وقد توظف من قبل الوعاظ والسياسيين لتحريك مشاعر الناس، «فالقرآن حمّال أوجه»، كما وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضلا عن ان بعض التفسيرات يعود إلى المجتمع الإسلامي القديم المحكوم بظروف زمانه ومكانه، فهي تفسيرات لا تصلح لزمننا هذا الأكثر تعقيداً ذي المتغيرات والتطورات المتشابكة والمتغيرة.

والإشكالية الثانية، هي ضرورة التفريق بين «الإسلام» لكونه وحياً إلهياً من جانب وتاريخاً للمسلمين وتراثهم الإسلامي كاجتهادات بشرية على الجانب الآخر، بما يحتم النقد والنقض والمراجعة والتجديد، فالتاريخ السياسي للمسلمين هو تاريخ بشري له إيجابياته وسلبياته البشرية والتراث الفقهي هو صنيعة أجيال تاريخية معينة في ظروف مكانية وزمانية محددة، اجتهد فيها المسلمون ليتعاملوا مع ظروف عصرهم. «وقد ورَّثت الأجيال القديمة هذه الاجتهادات لمَن بعدها لكي تدخل في البناء الثقافي العام للأمة، ولهذا فإن هذا الفكر ليس له عصمة الإسلام نفسه ويجب ألا يُخلط به، لأن خلطه به يؤدي إلى إقحام الفكر البشري في الوحي الإلهي، ووضع التراث الفقهي في مرتبة العقيدة»، وفق ما جاء في رأي الدكتور علي فهد الزميع في ورقة العمل. فاختلاط النصوص الدينية بالفهم البشري في كثير من الأمور أدى إلى ادعاء بعضهم باحتكارهم الحقيقة الدينية، وإلى إضافة القدسية على الاجتهادات البشرية.

أما الاشكالية الثالثة، فتتشكل في الرواية الجزئية للتاريخ الإسلامي، وهي اعتماد بعضهم على الرواية الانتقائية القاصرة للتاريخ الإسلامي، من دون انتهاج المبدأ العلمي والموضوعي الذي يفسر الأشياء كما هي، وليس كما يرغب في أن تكون، انطلاقاً من المبدأ الذي تمناه الرسول عليه الصلاة والسلام «اللهم أرني الأشياء كما هي، ثم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً، وارزقني اجتنابه»، أما ما يقوم به بعضهم فهو عكس ذلك تماماً، من حيث أنه ينتهج للأسلوب «الرغبوي» الذي ينتقي قصص التاريخ الإسلامي ليسقطها على الواقع، فيصور تاريخ المسلمين على أنه تاريخ مثالي طوباوي، وأنه كان عصراً ذهبياً لا تشوبه شائبة، مما يجعل الناس تؤمن بقدسيته وعدم الحاجة إلى جديده ونقده.

كسر الاحتكار

وبناء على كل ذلك، فمن الواجب تبيان أن مهمة نقد الخطاب الديني ومراجعته لا تقتصر على مساعي رجال الدين المستنيرين فحسب، بل يجب أن تصبح من أهم مسؤوليات المفكرين والمثقفين ومنظمات حقوق الإنسان، باعتبار أن الإنسان هو الركيزة الأساسية في الحياة البشرية، لذا يمكن القول إن عقلنة هذا الخطاب الديني تكون من خلال تهيئة البيئة المناسبة التي تستدعي كسر احتكار «رجال الدين» للدين، ومشاركة العقول المستنيرة في «الاغتراف من مصادر ثقافتها»، بعد أن سيطر عليها الجمود والركود، وفق ما قال الباقر العفيف في دراسة مركز القاهرة لحقوق الإنسان في ندوة كيفية تجديد الخطاب الديني... أفكار أولية للنقاش. فتهيئة المناخ تستوجب مقاومة الإرهاب الفكري، وحماية حرية الفكر والتعبير والدفاع عنها، إذ لا نهضة حضارية وعلمية وفكرية وثقافية من دون حرية، فخطورة الإرهاب الفكري تكمن في ترهيب العقول وحصرها في قالب الممنوع والخطوط الحمر، وهذه هي المقدمة الطبيعية لإخضاع العقول واستسلامها، فالعقل الخائف لا يفكر تفكيراً قويماً سليماً، ولا يخرج عن القالب الذي يشكل منهجية تفكيره، فهو يفكر ضمن إطار ضيق ومحدود لا يخرج أو يحيد عنه، وهنا يصبح حكمه أو نقده مقيداً ومحدوداً وغير ذي فعالية. تلك هي البيئة التي تفرز جماعات متطرفة تمارس الإرهاب بأشكاله جميعها، فما تقوم به بعض التيارات الإسلاموية السياسية الآن من تهيئة البيئة للجماعات المتشددة والتي تعمل على مصادرة الإسلام وتشويه صورته وتفريغه من روحه وجوهره تستدعي مراجعة خطاباتها ومفاهيمها التي يعتقدون أنها ركائز أساسية للإسلام.

ثمة مسألة ينبغي إزاحة الستار عنها، متعلقة بتلك المفاهيم التي كثيراً ما تنتشر ويؤمن الناس بصحتها، فيستخدمونها ويحولونها إلى حقائق ثابتة ومسلَّمات قاطعة في منظومتهم الفكرية، ويتهمون مَن يعارضونها أو يخالفونها اتهامات ليس لها سند منطقي، فتناول القضايا الدينية بطريقة متشددة من أجل تطبيقها وفرضها كأمر واقع، يؤدي إلى الغلو والتعصب، ومن ضمن هذه المفاهيم شعار الحاكمية لله، والدولة الإسلامية، والجهاد السياسي، والحديث عن الشهادة في سبيل الله ومحاربة الكفار والمخالفين لتعاليم الدين الإسلامي، متناسين قول الله سبحانه وتعالى في آياته المحكمات: [فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ] (سورة الغاشية: 21 و22)، و[فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر] (سورة الكهف: 29)، و[وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ] (سورة يونس: 99)، و[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ] (البقرة: 256).

لذلك فنحن في هذا الفصل بصدد تحليل وتفكيك ثلاث إشكاليات مهمة يتمحور حولها الخطاب الديني المتشدد في المنطقة الإسلاموية بشكل عام والكويت بشكل خاص، والإشكاليات هي: 1) التفسير الملتبس لمبدأ الحاكمية. 2) مشروع الدولة الإسلاموية. 3) التوظيف السياسي لمفهوم الجهاد.

ثم نحاول بعدها تسليط الضوء على الاختلالات وأوجه الخلل في الخطاب السياسي الديني في الكويت الذي دفع لتنامي ظاهرة التطرف.

مراجعة للمفاهيم الأساسية للخطاب المتشدد

أ- شعار الحاكمية لله

يشكل شعار «الحاكمية لله» من أكثر الشعارات التي يرفعها أصحاب الفكر المتطرف حساسية وخطورة، وهو قول حق يُراد به باطل، كما قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فهم يرددون أن «الحاكمية لله وحده ولا حكم لغيره، فله وحده حق التشريع والقضاء، ومن يقل غير ذلك أو يفعل على خلافه، فهو كافر. وانه إذا غم أمر شيء في النصوص، فالمرجع في ذلك يكون للعلماء وأهل الذكر من دون غيرهم، فهم مَن يفسرون ويفتون ويقضون. وأنه لابد من الحكم بالتشريع الإلهي كله بحيث لا يجوز تعديل حكم فيه أو وقف حكم آخر، أو القول بنسبية حكم ما أو وقتية أي حكم، ومن لا يحكم بالتشريع الإلهي كله من دون تعديل أو وقف، فهو كافر. وأن المجتمع المعاصر كله مجتمع جاهلي ينبغي الانقضاض عليه لهدمه، وعدم مهادنته أو مسايرته أو متابعته، فلا يوجد إلا «حزب الله»، وهو الحزب الذي يضم قادة وأتباع هذا التيار، و«حزب الشيطان»، وهو الحزب الذي يضم مَن عداهم في العالم كله، وعلى «حزب الله» أن يعلن الجهاد والحرب المقدسة- من دون هدنة أو هوادة- على «حزب الشيطان» حتى يقضي عليه، ومن ثم تعود الحاكمية لله وحده»، حسبما قال محمد سعيد العشماوي في كتابه «الإسلام السياسي».

هذا هو في واقع التفسير الأساسي الذي يعتمد عليه هذا التيار المتشدد، والذي يفرَّخ بدوره متطرفين يلجأون إلى العنف كوسيلة للوصول إلى «حاكمية الله»، ومن هنا يتعين علينا اجترار بعض الأمثلة لتوضيح عدد من الالتباسات المهمة في ما يتعلق بهذا الشأن. عارض الخوارج علي بن أبي طالب في حرب «صفين» ضد معاوية بن أبي سفيان تحت شعار «لا حكم إلا لله»، فرد لحظتها عليهم علي بن أبي طالب بأنه «قول حق يُراد به باطل». ذلك المنطق الذي عبَّروا عنه بالشعار المذكور انما يسقط التكليف الإلهي وينسف الإرادة الإنسانية، وينفي مبدأ العقاب والحساب إذا كان الإنسان بلا إرادة لا يفعل أو كان عديم الفعل لا يحكم، وفق ما جاء برأي العشماوي في الكتاب ذاته.

وما يعمق من الأزمة أن دعاة ورموز الفكر الأصولي عادة ما يقرون بشعار «الحاكمية لله» ويعتبرونه الركيزة الأساسية للإسلام «وهو قول حق»، متجاهلين أنهم يحيدون عن الفهم ليطلبوا من أتباعهم ومن الناس كلهم طاعة أمرهم، واتباعهم وحدهم، وقبول تفسير فقهائهم من دون تفسير آخر «وهو ما يراد به باطل»، لأنه يجعل من الناس، بالفعل والواقع، عبيداً لغير الله، وفق توصيف العشماوي.

محاولات التحايل

التطبيق الفعلي لفكرة «الحاكمية لله» دخلت إلى الفكر السياسي الإسلامي بداية من خلال شعارات الخوارج، ثم تبناها الخلفاء الأمويون والعباسيون من بعدهم لتصبح جزءاً لا يتجزأ من الفكر السياسي الإسلامي فاستخدموها لتعزيز سلطة الحكم، وقد أوعزوا إلى وعاظهم من أجل استخدامها لتبرير مظالمهم ولتخدير عقول الناس واستعبادهم. وقد قال معاوية يوماً مقولته الشهيرة «الأرض لله... وأنا خليفة الله»، وفي العصر العباسي أفصح صراحة أبو جعفر المنصور «أيها الناس أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة، نحكمكم بحق الله الذي أولانا، وسلطانه الذي أعطانا، وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله»، فمنذ أن دخل هذا الفكر تلقفه الحكام لتبرير كل أخطائهم تحت مسوغ أنهم يحكمون باسم الله، حتى أصبحت كل فئة تدَّعي لنفسها احتكار الحق وتزعم أنها وحدها في طريق الإيمان، وأنها هي الفئة «الناجية»، وتدَّعي أن غيرها من الفئات الخارجة عن سلطانها انما هي فئة كافرة بالله جاحدة بتعاليمه وأوامره. وفي الواقع لا يمكن فهم ذلك المسوغ والحجة غير المبرهنة منطقياً سوى انها محاولة للتحايل على الناس وحقوقهم، فما يحكم الناس إلا الناس، وما يعارض الحاكم أو غيره إلا الناس كذلك. ومَن يعترض على ذلك التفسير تحت حجة أن الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان لله، نرد عليه ونقول إن عهد النبي كان محكوماً بإرشاد الوحي، أما بعد النبي فالناس جميعاً بشر متساوون، لا يوحى لأحد منهم ومن ثم فحكمهم هو حكم الناس، يصيبون ويخطئون فيعزى الخطأ والصواب على حد سواء لهم هم وحدهم، أما عدا ذلك فإنما هي دعوة إلى إضفاء عصمة وقداسة على نفسه أو على مَن يتبعونهم، وهو ما مال إليه المستشار العشماوي في كتابه.

أما في ما يتعلق بلفظ الحكم بما أنزل الله الذي ورد في القرآن الكريم [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] و[وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] و[وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]- (المائدة: 44 و45 و47 على التوالي)، فيفسرها بقليل من الدقة والموضوعية على أن الحكم والقضاء بغير حكم الله هو كفر وظلم، فهذه الآيات، التي تستخدم كشعارات ثابتة من أجل تحقيق مصالح حزبية وسياسية، نزلت في أهل الكتاب لأسباب ظرفية، بخصوص دية القتيل لديهم وانحرافهم عما استقر عليه الحكم في شرعهم، وأنهم هم وحدهم المعنيون بهذه الآيات وليس المسلمين، كما ذكر معظم مفسري القرآن الثقاة مثل القرطبي، والسيوطي، والبيضاوي، والنسفي، والطبري، والزمخشري، فالطبري يقول إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، روى هذه الآيات لنزولها في أهل الكتاب ولا علاقة لها بالمسلمين، كما يروي الزمخشري عن ابن عباس هذا التفسير كذلك، أما القرطبي فيقول إنها في أهل الكتاب كلها، أما في وقتنا الحالي فتفسر هذه الآيات على أنها تعني الحكم السياسي.

غموض «مفردة» الحكم

ما هو متعارف عليه أن النص الديني قابل للتفسير المتعدد، وهو لا يعتمد على منهجية أحادية التفسير، والدليل على ذلك تعددية التيارات من سلفية وإخوان مسلمين وغيرها نتيجة لاختلافها في الرؤية والتفسير والفهم، فالقضية ليست في ما إذا كان الاجتهاد خاطئاً كله أم صحيحاً كله، فهناك نسبية في الحقائق حسب ظروف الزمان والمكان، وهناك بين الأبيض والأسود الكثير من الاحتمالات، لذا فالمسألة تكون تقريبية عموماً وليست بالضرورة قطعية وحاسمة، كما يدعي بعضهم. ونورد هنا مثالاً للتدليل على خطورة القضية، فالأوائل كانوا يتوقعون الفرقة والاختلاف، فرداً على تساؤل عمر بن الخطاب المعروف: «كيف تختلف أمة الإسلام ونبيها واحد، وقبلتها واحدة؟ ردّ عليه ابن عباس: «لقد أُنزل علينا القرآن، فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولايدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي، ثم يختلفون في الآراء، ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه»، وهو ما اتفق عليه محمد سلمان غانم وأورده في كتابه «الله والجماعة» الصادر عام 1997.

ما نريد إيضاحه بشأن مفردة الحكم الواردة في القرآن الكريم، فهي ليس المقصود بها السلطة السياسية، كما هو متعارف عليه في وقتنا الراهن. فكلمة «الحكم» ومفرداتها في لغة القرآن تحمل في مدلولاتها معاني مرتبطة بالعدالة وميزان القضاء والمساواة مثلما هو واضح في الآية [وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ] (النساء:58)، أو تعني الفصل في الخلافات [إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] (الزمر:3)، وهي تعني أيضا الرشد والحكمة [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا] (يوسف:22)، وكذلك جاء في القرآن عن الأنبياء جميعاً [أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ] (الأنعام:89). وأغلب هؤلاء الأنبياء لم يحكم بالمعنى السياسي، إنما آتاهم الله عز وجل الحكمة والرشد، أما السلطة السياسية بالمعنى المقصود به في عصرنا الحالى أي الحكومة، فهي لفظ «الأمر» في القرآن الكريم: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران- 159)، [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى:38)، [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران: 152)، [يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ] (آل عمران: 154). وفي خطبة لعمر بن الخطاب قال: «ليعلم من ولى هذا الأمر من بعدي... ان هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا حدة فيها، وباللين الذي لا وهن فيه»، ويقول علي بن أبي طالب إن بعد موت رسول الله «تنازع المؤمنون الأمر من بعده». إن استخدام اللفظ في غير المعنى الذي أتى به القرآن الكريم هو تحويل لمقاصده وإخراج الآية والنص عن أسباب تنزيلها وظروفها التاريخية ووضعها في سياق غير الذي أُنزلت من أجله، فكان استخدام شعار الدولة الإسلامية، والتي أدت إلى نتائج خطيرة لم يهدف إليها القرآن، وهو ما اتفق عليه كذلك المستشار العشماوي في كتابه.