في معظم أعماله الروائية، يبدي الكاتب البيروفي «ماريو بارغاس يوسا» ولعاً فائقاً بموضوع الفن التشكيلي، تاريخاً وآثاراً، وذلك ما يَظهر جلياً في روايتيه الشهيرتين «مديح زوجة الأب» و«دفاتر دون ريغو بيرنو» اللتين كانتا أشبه بمعرضين لروائع اللوحات العالمية.

Ad

ويبدو أن ولع «يوسا» بهذا الموضوع هو الذي قاده الى تأليف روايته الرائعة «الفردوس على الناصية الأخرى» التي يمكن اعتبارها روايتين، وذلك لتناولها سيرتين اثنتين، على التعاقب بين الفصول، الأولى للناشطة النسائية الفرنسية «فلورا تريستان»، والثانية للرسام الفرنسي الشهير «بول غوغان».

ما الرابط بين السيرتين؟!

أحسب أن «يوسا» المولع بالتشكيل قد اكتشف «تريستان» من خلال بحثه في سيرة «غوغان»، إذ إن تلك المرأة لم تكن سوى جدّة غوغان لأمه، لكن الرابط الأعظم بينهما لم يتمثل في صلة القرابة فقط، بل تمثل في تمردهما معاً على القواعد والمواضعات الاجتماعية في عصريهما، اللذين يفصل بينهما أكثر من نصف قرن.

وإذا كان تمرد الاثنين نتاج علاقات اجتماعية بائسة، فإن ثمرة كل منهما كانت عظيمة على صعيدي الفن والاجتماع.

تبدأ الرواية بفصل عن «فلورا تريستان»، وهي في عامها الحادي والأربعين، أي قبل قليل من وفاتها، ثم تمتد الفصول الأخرى، على التعاقب مع فصول سيرة غوغان، راجعة بالذاكرة إلى سنواتها الماضية.

إن تلك المرأة كانت ضحية وضع اجتماعي خاطئ، قيّدها إلى زوج فاسد وقبيح لم يتردد، من أجل كسر شوكتها، عن فعل أي شيء، حتى الاعتداء على ابنته التي من صلبه، مما دعا فلورا إلى الفرار بابنتها من مكان إلى آخر، والاختباء طوال الوقت من مطاردة القانون الجائر الذي يعطي الحق لمثل ذلك الزوج الساقط باستعبادها.

وهي إذ اضطرت، من أجل أن تعيش وتعول ابنتها، إلى العمل تحت اسوأ الظروف بأجر زهيد جداً لا يساوي نصف الأجر الذي يحصل عليه الرجل الذي لا يحصل هو أيضاً على ما يقيم أوده، برغم طول ساعات العمل وسوء مواقعه، فقد تفتحت عيناها على حقيقة أن «المرأة» ليست وحدها المظلومة في ذلك المجتمع، بل إن «العامل» رجلاً كان أو امرأة هو شريكها الحق في المظلومية، ولذلك فإنها رأت أن تَحرُّر النساء المستعبدات لا يمكن أن يحصل إلا باتحادهن مع «العمال» باعتبارهم ضحايا الاستعباد الآخرين.

وبعد أن حشدت طاقتها كلها لتأليف كتاب صغير وصاعق عن مأساتها الشخصية بعنوان «اغتراب منبوذة» استطاعت أن تحرك مياه المجتمع الراكدة، على الرغم من ضعف أسلوبها وكثرة أخطائها الإملائية. وقد أهّلها ذلك الكتاب لأن تحظى بالكثير من تعاطف وإعجاب الطبقة المسحوقة، لكنه من الناحية الأخرى ألّب عليها الطبقة المرفهة، وزاد من ضراوة مطاردة السلطات لها.

وذلك ما حملها على إدراك أن أمر التحرّر ونيل الحقوق لن يتحقق بالكتابة وحدها، فبرغم أن الأفكار جوهرية، فإن الكلمات الجميلة إن لم يرافقها عمل حاسم من جانب الضحايا، فإنها ستتحول إلى دخان، ولن تتعدى مجالس الثرثرة الباريسية.

وعلى هذا، فإنها نزلت إلى ميدان تنظيم العمال والنساء، من خلال اللقاء بهم ودراسة ظروفهم واستطلاع مشاكلهم وحاجاتهم، الأمر الذي ألهمها تأليف كتابها الخطير «الاتحاد العمالي». وقد بلغ الحماس بها حدّ عبور البحر إلى بريطانيا لبثِّ دعوتها بين العمال والنساء هناك، باعتبار أن القضية التي تدعو إليها هي قضية عالمية لا تختص بقطر دون آخر، خصوصاً أن قوانين منتصف القرن التاسع عشر كانت تشمل بقسوتها أنحاء أوروبا جميعها. إن كثيراً من المظالم التي سجلتها «تريستان» في كتابها، ودعت إلى إزالتها، وحرّضت العمال والنساء على المطالبة ببدائل لها تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، قد وجدت، في ما بعد، آذاناً مصغية، وأمكن لها أن تزول، في حين فشلت أفكار الفلاسفة الهابطة من الأبراج العالية، في أن تحصد عشر معشار ما حصدته أعمال تلك المرأة ميدانياً وواقعياً، ذلك لأن الثمار لا تنزل من السماء بالمظلات، ولكنها تطلع من الأرض، إذا تعهد المرء أشجارها بالرعاية ووقاها من عصف الأنواء.

ولنا في الطرفة التالية دليل واضح على هذه الحقيقة:

عندما كانت «تريستان» تتابع طباعة صفحات كتابها «الاتحاد العمالي» على آلة الطباعة القديمة ذات الدواسات، كان هناك شاب عصبي ذو لحية نامية، متعرق، ومحتقن بالاستياء، يحتج بفرنسية حلقيّة مريعة، مرفقة بتناثر اللعاب، لأن المطبعة لا تنفذ التزامها معه، وتؤخر طباعة مجلته، لتقدم عليها «الترهات الأدبية لهذه السيدة التي وصلت لتوها».

عندئذ نهضت «فلورا تريستان» وتوجهت إليه صائحة: «أقلت، حضرتك، ترهات أدبية؟ اعلم أيها السيد أن عنوان كتابي هو «الاتحاد العمالي» ويمكن له أن يغير تاريخ الإنسانية، فبأي حق تأتي أنت لتصرخ مثل ديك مخصيّ؟!

دمدم الرجل الصارخ شيئا بالألمانية، ثم اعترف بعد ذلك بأنه لم يفهم ذلك التعبير، ما الذي يعنيه «ديك مخصي»؟

قالت له «تريستان» ضاحكة: اذهب وابحث في المعجم، وحسِّن لغتك الفرنسية، وعليك أن تنتهز الفرصة أيضاً لتحلق لحية النَّيْص هذه التي تمنحك مظهراً قذراً.

قال الرجل، وقد احمرَّ من عجزه اللغوي، إنه لا يفهم أيضا ما يعنيه «النيص»، وإن مواصلة الجدال في مثل هذه الظروف لا مغزى لها.

وقد عرفت «تريستان» بعد ذلك من صاحب المطبعة، أن ذلك الأجنبي النزق هو «كارل ماركس»!

وإذا كنا نعرف الكثير عن الرسام البوهيمي «غوغان» الذي أمضى أواخر عمره في تاهيتي وبايا وماتيّا، لإيمانه بأن الفن الحقيقي يطلع من تلك الأنحاء البدائية التي لم تلوثها الحضارة، فإن وقوفه في طريق «يوسا» المولع بالفن التشكيلي، قد أتاح لنا أن نتعرف على جدته الجبارة التي استطاعت بعملها الميداني الفردي والمحاط بالأخطار المختلفة، أن تغير شيئاً في تاريخ الإنسانية فعلاً، بالشكل الذي لم يقيض لعمل «كارل ماركس» أن يحقق بعضه، على الرغم من عمقه وشموله وحظوته بالأنصار في شتى أنحاء الأرض، وسيطرة مجاميع من معتنقيه على مقاليد الأمور في العديد من الدول، على مدى عقود متطاولة!

* شاعر عراقي