انتشرت خلال العقدين الماضيين، بشكل كبير، في الكويت فكرة تمجيد الماضي، وراح نفر كثيرون يروجون لها بمختلف الأفكار والأقاويل. مرددين بداعٍ ومن دون داعٍ مقولات: بساطة الماضي، وهدوء أجواء الماضي، وطيبة الناس في الماضي، وصدقهم وتواصلهم وتراحمهم وتكاتفهم وأمانتهم ووفائهم بالعهد، حتى بدا الماضي للبعض كأنه صورة مثالية لمجتمع مثالي.

Ad

إن التغزل والترحم على الماضي، يمثل أسهل الطرق للهروب من مواجهة واقع الحاضر، ومحاولة لتشويه صورته، مقارنة بصور الماضي، من دون أن تكون هناك موضوعية في الحكم، ومن دون أن يكون هناك صدق في نقل الحقيقة كلها.

نعم، لقد عاش المجتمع الكويتي، في مطلع القرن الماضي حتى تصدير أول شحنة بترول بتاريخ 30/6/1946، ظروفاً اجتماعية مختلفة، انعكست ظلالها على مختلف مناحي الحياة، فمجتمع بسيط عددياً، ويفترش رقعة من الأرض صغيرة، ويعتمد في حياته على الأعمال البحرية من جهة، وعلى علاقته بالقوافل والتجارة الصحراوية من جهة ثانية، كان حري به أن يفرز شكل علاقاته الاجتماعية غير المعقدة، وشكل حياة أفراده البسيطة، لكن، من قال إن أفراد ذاك المجتمع كانوا ملائكة، وان تلك الحياة كانت نعيماً كلها، وان مقارنتها بالحاضر تظهر مثاليتها وصفاء صفحتها؟

إن ماضي الكويت، كان يعني بين ما يعني حياة صراع قاسية ومؤلمة، يعني سفراً للرجال، وغياباً عن أسرهم وبيوتهم صيفاً وشتاءً. سفراً قد يطول لمدة ستة أشهر. صيفاً حين يهب الرجال للذهاب إلى رحلة الغوص، التي تحمل من المخاطر بقدر ما تحمل من الأمل. وشتاءً رحلة التجارة المحفوفة بالمخاطر والأهوال، التي وصلت إلى مختلف موانئ الخليج والهند وافريقيا. وفي كل هذا كان ربان السفينة، النوخذة، هو الآمر الناهي، ولا راد لكلمته، وكان قانون الغوص حاكماً لمصلحته في علاقته مع الغاصة وباقي عمال السفينة.

نعم لقد كان الماضي أكثر بساطة، لكنه كان أكثر بؤساً وأمية وجهلاً، وكان أكثر وصلاً بين الناس، لأن الخروج من منطقة شرق إلى منطقة الجهراء بمنزلة السفر. ولم يكن الناس يعرفون الأمراض الحديثة، لأنهم كانوا يعتمدون في التداوي من أمراضهم على تخرص الحوّاي، وعلى أصحاب الرقية وحفلات الزار. وكان الناس يعتمدون على الكلمة في بيعهم وشرائهم، لأن الحياة الاقتصادية والمالية لم تكن على ما هي عليه اليوم من التعقيد والتنوع والاتساع والتعامل الالكتروني والصلة بالمحيط القريب والبعيد. وفي تلك الأيام لم يكن للفتاة رأي في اختيار شريك حياتها، وكانت محكومة بالبقاء سجينة في محيط بيت أبيها، إلى أن تحين لحظة خروجها إلى بيت زوجها، الذي تغادره إلى قبرها.

الكويت اليوم أكثر تعقيداً، لكنها أكثر عصرية وحداثة وجمالاً وتنظيماً، وأكثر انكشافاً ووصلاً بالعالم. المجتمع الكويتي اليوم لا يشبه بتواصله كويت الخمسينيات، لأن العصر الذي نحيا أعطى للفرد استقلاليته وحريته في اختيار شكل حياته، وبما يقدم للإنسان جزءاً كان مفتقداً من إنسانيته.

الكويت منذ استقلالها ومن ثم وضعها لدستورها، وعملها به، ارتضت لنفسها أن تكون دولة مؤسسات، وارتضت لأبنائها حياة الحرية والديمقراطية الكريمة، واختطت لنفسها خطاً في أن تكون في مقدمة الأمم الساعية إلى التحضر والتقدم. وهي في كل هذا تأخذ من الماضي أصالته وتتمسك به جذراً لوجودها، لكن عيونها تبقى شاخصة أبداً إلى الأمام، صوب التحضر والحداثة، بعيداً عن صور خادعة يجهد البعض لتصويرها بوصفها الجنة المفقودة!