قد يكون يوم، تحل فيه غرف وبرامج الدردشة محل المقهى والحديقة والزيارات المنزلية. إلى حد بعيد، لم تعد الصداقة عن بعد مقتصرة على الأصدقاء الذين باعد بينهم المكان. في المدينة نفسها، في الحي وحتى في المبنى نفسه، يفضل بعض الأصدقاء قضاء وقته سوياً عبر الأثير.

Ad

إلى شاشة الكمبيوتر، تضاءل الفضاء المكاني المخصص للقاء.

يقول بعضهم إنه يتسع لأكثر مما تتسع له غرفة في منزل، أو طاولة في مقهى. لا عدد محدداً من الأصدقاء يتاح له الحضور في الوقت نفسه.

المحادثة بالصوت والصورة ممكنة ومتوافرة، لكن المحادثة المكتوبة، تفي بالغرض في الكثير من الأحيان. للغة هنا طبائعها الخاصة، حرف زيادة أو نقصان، يوحي بالفرح أو الكآبة أو الملل، شيء يشبه نبرة الصوت أو نظرة العيون، يقول بعضهم. حتى التمييز بين الضحكة والابتسامة الصفراء ممكن عبر نافذة الدردشة، يؤكدون.

الرسوم الصغيرة التي تتخذ شكل وجوه غاضبة أو ضاحكة أو حزينة... إلخ، تساعد في هذا الإطار، لكنها تستخدم من باب التفكّه أكثر منها تعبيراً جدياً عن المشاعر. هذه الأخيرة، تجيد التعبير عن نفسها بجدارة، عبر لغتها الكمبيوترية الخاصة.

يتاح للصديق عبر العالم الافتراضي أن يتواصل مع الأصدقاء في الوقت نفسه الذي يؤدي فيه بعض الأعمال، ويستمع للموسيقى التي يهواها، ويسترق النظر إلى برنامج تلفزيوني لطيف، وإلى جانبه وجبة لذيذة. يقولون هو الإنسان «المتعدد المهام»، الذي يمسك بالوقت من رقبته، وينبعث لديه شعور مزهو بالانتصار على الزمن.

الأصدقاء عبر الإنترنت، يتناحرون، يغضب بعضهم من بعض، يغلق أحدهم الـ«شات» في وجه الآخر، ويحجب نفسه عنه إذا اقتضى الأمر، يتبادلون النميمة وأخبار الدنيا وهموم الحال. يخوضون في نقاشات مجدية أو عقيمة، ويقاطع بعضهم بعضا في الحديث، وتنهمر الكلمات أحياناً في فوضى، تشبه ما يحدث في برامج الـ«توك شو» العربية.

للصداقة معنى جديد عبر الإنترنت، لا يفهمه مَن لم يجرب، يقولون. تماماً، كما «يتفلسف» بعض الكتاب، بأن أفكاراً لا تسيل وتترتب إلا على الورق وحبر القلم يلطخ أصابعهم، وتتجمد تلك الأفكار وتنهزم، إذا ما حاولوا الكتابة على جهاز الكمبيوتر مباشرة. الـ«كيبورد» ببياض الورق وانسيابه يقولون، وصوت «تكتكة» الأحرف بجمال رائحة الحبر.

في أحيان كثيرة، تتوارى اللغة وراء أشكال جديدة للتعبير. مقطع فيديو، أو لحن موسيقي، أو حتى صورة معينة، على سبيل الاستعارة حيناً والقياس حينا آخر!

يبقى للصديق عبر الإنترنت، حضوره الجميل والمؤثر، ولا نتحدث هنا عن التعارف أو العلاقات الإلكترونية العابرة، بل عن الصداقات المتينة، التي بدأت في العالم الواقعي وشبه استقرت في العالم الافتراضي. الجوانب الأكثر سلبية التي قد تظهر خلال اللقاء وجهاً لوجه، تداري نفسها بثقة وراء ظلال الأثير. ليس في ذلك من تزييف أو خداع، بل رصانة إلكترونية تفرض نفسها! ونضج افتراضي يسبق مثيله الواقعي.

فوق هذا وذاك، ما الذي يمكن أن يكون أكثر ملاءمة لغلاء المعيشة وفقر الحال، خصوصاً لشباب في مقتبل العمر والتفليس، أكثر من صداقة ذات تكلفة معقولة، لا تكلف أجرة مواصلات أو فاتورة مقهى أو التحسر على عدم القدرة على شراء الجديد من الثياب و«جيل» الشعر و«البارفان».

أصحاب «الدقة القديمة» يندبون صداقات العالم الافتراضي. ينعون العالم الإنساني المبني على التواصل الفعلي والحقيقي يداً بيد وخداً على خد. لا شيء يفعل فعل المصافحة وعناق الأحبة، يقولون. لا بديل عن الكلمات جنباً إلى جنب مع النظرات. لا صوت يعلو فوق صوت الصديق، ولا ما يعوض عن دخان النرجيلة التي تظلل الأصدقاء في المقهى، أو لعبة «تريكس» في السهرة. لا يمكن لشاشة الكمبيوتر أن تحل محل الأماكن وما تعبق به من ذكريات مشتركة. لا يمكن لوجه الكتروني أصفر تعتليه البلاهة، غاضباً كان أو ضاحكاً، أن يحل محل ابتسامة صديق أو رنة ضحكته.

مدمنو العالم الافتراضي لا يعرفون معنى الصداقة، ولا يفقهون معنى الحياة، ولا يميزون شخوصها عن أشباحها. أصبحوا مبرمجين كما أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم. فيروس صغير ويذهب بكل ما اختزنوا من صداقات وعلاقات ومشاعر مبرمجة.

يرد عليهم أولئك، بأنهم لا يفقهون معنى الـ«فريند شيب» في العالم الجديد. تجاوزهم الزمن، ولم يدركوا أن العلاقات الإنسانية تتطور في شكلها ومضمونها هي أيضاً، كما كل شيء آخر.

قد يكون يوم، نعانق فيه صديقاً عزيزاً عبر العالم الافتراضي. كيف؟ لا فكرة لدي. لكن حتى ذلك الوقت -إن أتى- يبقى أصحاب الصداقة الإلكترونية الجميلة، في ورطة حقيقية، حين يستبد بهم الشوق إلى عناق صديق أو طبع قبلة على خده.

*كاتبة سورية