تذهب بعض القصص المثيرة في السياسة الدولية اليوم إلى أن الصين بثت للأميركيين رسالة سرية مفادها «أن كفوا عن مضايقتنا وإلا سوف نبيدكم»، هكذا قالت الرسالة المزعومة بالحرف الواحد.

Ad

أما عن مضايقة الصين فالمقصود هو تفسير مذهل لما يحدث للصين أخيراً من فيضانات وزوابع وصواعق فقدت فيها آلاف الأرواح وعشرات المليارات من الدولارات: أي أن هذه الكوارث من تدبير أميركا. فان صدقت تلك الحكاية، فماذا سيكون انتقام الصين؟ سيكون من النوع نفسه. ومن ثم تشتعل حرب أخطر عشرات، إن لم يكن آلاف المرات من الحروب الذرية: أي الحروب البيئية.

تبدأ القصة عندما زعم أحد العلماء الصرب الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة قرب نهاية القرن التاسع عشر للحصول على فرص لتطبيق اختراعاته الفذة أن من الممكن التحكم في البيئة الطبيعية بطرق أسماها الهندسة المناخية. وما تنشره بعض المواقع الإلكترونية من قصص تشير إلى أن الولايات المتحدة بدأت بالفعل تجريب بعض تقنيات التحكم البيئي بعد إلقاء قنابل ذرية فوق هيروشيما ونجازاكي مباشرة.

وعندما بدأ العلماء الأميركيون يحذرون من أثر الصوبة الزجاجية وارتفاع درجة حرارة الأرض، وما يترتب عليها من كوارث طبيعية منذ عشرين عاماً، كان المطلوب هو بذل جهد عالمي كبير ومتناسق لخفض الانبعاثات الملوثة للبيئة، وخصوصاً من ثاني أكسيد الكربون. ورفض الجمهوريون المشاركة في هذه الجهود وانصرفت مساعي أميركا لحل مشكلة سخونة الأرض وثقب الأوزون إلى تطوير تقنيات معقدة تطبق ما يسمى بالهندسة البيئية أو المناخية.

الهندسة البيئية مثل الهندسة العضوية مصطلح غامض ومراوغ، بل وكاذب ومضلل. فثمة إجماع بين العلماء على أن المقصود هو في الحقيقة التلاعب بالبيئة الطبيعية دونما اعتبار لما تعلمته البشرية من تجربة قرن كامل من الصناعة وبالذات تطوير الصناعات الخطيرة. إن هذا التلاعب يمثل مخاطرة مرعبة، بل وتهديدا لا يمكن الاستهانة به للحياة البشرية. ويعتقد علماء كثيرون أن السبب الرئيسي لرفض أميركا التصديق على اتفاق «كيوتو» الخاص بالبيئة، هو أنها لا تريد تقييد نشاطاتها في مجال الهندسة البيئية. صحيح أن هذه النشاطات سرية ويضرب حولها طوق أو أطواق كثيفة من التعتيم، غير أنها بحكم تلاعبها بالطبيعة- كما يعرفها البشر العاديون والعلماء المتخصصون- سهلة الانكشاف أو الاكتشاف.

هندسة الأعاصير

وحتى لا نغرق القارئ العزيز في تفاصيل فنية، فالهندسة البيئية تعني نظرياً امكان الوصول إلى أفضل علاجات للمشكلات البيئة وأفضل ظروف مناخية بالنسبة الى أمة أو دولة معينة. فالدول التي تعاني الجفاف يمكنها الحصول على بعض المطر من خلال تقنية الاستمطار. والدول التي تعاني رطوبة عالية يمكنها تخفيض مستوى الرطوبة بتقنيات تساعد على الجفاف... وبالنسبة الى البشرية كلها يمكن علاج مشكلة ارتفاع حرارة الأرض عن طريق تقنية تعكس أشعة الشمس وتردها لطبقة جوية أعلى.

ولا يمكن بالطبع استبعاد أن يكون ذلك صحيحاً بدرجة معينة. غير أن المشكلة هي أن ما يعد «حلاً» بالنسبة الى دولة معينة يخلق مشكلة بالنسبة الى دولة ثانية. وعلى سبيل المثال، فإن تكنولوجيا الاستمطار لا تزيد كمية المطر المتاحة في العالم، وهي بالتالي تسرق الأمطار التي كانت من نصيب دولة أخرى بتحويل السحاب الحامل للمياه إلى الأولى. والأخطر هو أن ما يعد حلاً للدولة نفسها في وقت ما قد لا يزيد على أن يكون تمهيداً لكارثة في المستقبل. فمهما بلغ مستوى تطور المعارف البيئية والمناخية فنحن لا نعرف سوى القليل، ولا يمكننا التنبؤ بالنتائج المستقبلية لتطبيق تقنيات التلاعب البيئي والمناخي.

وحتى لو افترضنا حسن النية، فإن ما تفعله دولة معينة ظانة أنها تتصرف في «بيئتها» الخاصة قد يهدد الحياة ذاتها في دولة مجاورة أو دول عديدة أخرى أو في الكوكب الأرضي بأسره.

وإن تخلينا عن افتراض حسن النية، كما يطلب منا مئات من العلماء والمراقبين للسياسات الأميركية وسياسات الدول الكبرى الأخرى، فسوف تكون النتيجة كارثة مؤكدة، إذ يفترض هؤلاء أن أميركا وغيرها تطور وتنفق مليارات من الدولارات على ما يسمى بالهندسة البيئية لغرض امتلاك تقنيات وآليات نوع خاص جدا من الحروب البيئية. وعلى سبيل المثال يمكن أن يتم تخليق زوابع وأعاصير أو صواعق أو فيضانات خطيرة في دول أخرى مما يؤدي إلى خسارة ملايين من الناس حياتهم وتدمير الثروات التي قضى الناس في انتاجها أو اكتشافها عشرات السنين، ويمكن إغراق دول بأكملها في الفيضانات وفي المشاكل البيئية والمناخية الأخرى التي تنتجها تدخلات تم هندستها أو تجربتها في الحاسب الآلي في الولايات المتحدة.

ويروّج كثيرون لفكرة أن الولايات المتحدة تجري تجارب لإجبار إيران على التخلي عن قدراتها الذرية أو تدمير هذه القدرات من خلال الهندسة البيئية، بل إن بعضهم يعتقد أن كوريا الشمالية «سلمت» لأميركا ودمرت قدراتها على تخصيب اليورانيوم، لأن أميركا هي السبب وراء موجة الجفاف طويلة المدى- لأكثر من ثلاثة عقود متصلة- في هذا البلد، وهو ما أدى إلى أزمة غذاء قد تسقط النظام الحاكم كله. بل ويعتقد بعض آخر أيضا أن الولايات المتحدة جربت بعض تقنيات الحروب البيئية اثناء خوض حربها ضد فيتنام والتي انتهت مع ذلك بالهزيمة عام 1975.

أسلحة بيئية

ورغم أن افكاراً وأخباراً في هذا الاتجاه تملأ عالم الإنترنت، بل وتعج بها بعض المكتبات المهتمة بالنظريات التآمرية وصناعة التنبؤ، وبعضها يعيش على الحدود بين العلم والخرافة فلنا كل الحق في التشكك فيها. وعلى سبيل المثال لا يمكن أن تكون الولايات المتحدة قد قامت بتجريب بعض هذه التقنيات داخل حدودها. من ناحية ثانية، فإن قدرة بلد ما على شن حرب بيئية والانتصار فيها تنتهي تماماً عندما تمتلك بلد آخر هذه التقنيات نفسها. وبذلك لا يمكن أن تكون لهذه الحرب أهداف استراتيجية قابلة للتحقيق لأن مجرد تطبيقها يعني حرباً ضد الطبيعة وضد المستقبل البشري. وفوق ذلك فعلى الأرجح لا تحتاج أميركا ولا غيرها إلى هذه التقنيات، بينما تستطيع أن تضغط، بل وأن تحارب، بنجاح من دون المخاطرة بنتائجها المدمرة عليها هي ذاتها. وحتى لو باتت تقنيات من هذا النوع ممكنة فقد يستحيل استخدامها سواء بهدف اجراء تجارب حقيقية أو لتحقيق أهداف سياسية طالما أن الآخرين سيعلمون بها وقد يطورون تقنيات مشابهة أو مضادة. وعلى أي حال، فإن ما يبدو سلاحا «بيئيا» موجهاً ضد دولة خصم قد يقتل الحياة في البلد الذي يشن الهجوم!

ومع ذلك فلو أن البشرية سمحت باستمرار الانفاق على هذه التجارب والتقنيات أو بتقريبها من الاستخدام الفعلي يمثل كارثة أشد من الكارثة التي ألمت بالطبيعة فعلاً، بسبب التوسع غير المحدود في تدمير الغابات مثلا لأسباب اقتصادية ومالية.

وبكل تأكيد فشلت مجموعة الدول الثماني في إنتاج علاجات للأمراض التي تقتل البيئة الإنسانية، فمنذ عشرين عاماً كان مقياس التلوث 350 جزيئاً من ثاني أكسيد الكربون في كل مليون، واليوم ارتفع هذا المقياس إلى 385 جزيئا. والمؤكد أن هذه الزيادة سريعة للغاية ومخيفة في هذه الفترة الزمنية القصيرة. ومعنى ذلك أن بروتوكول أو اتفاقية «كيوتو» فشل، وأن جهود أوروبا أو البشرية ككل أقل بكثير مما هو ضروري لإنقاذ الكوكب من كارثة محققة. فإذا كان المستوى الخطير، وفقا للعلماء الأميركيين هو 450 جزيئا، فإن قرارات مجموعة الثماني تستحق السخرية، فقد يتم تخفيض التلوث بالفعل بعد خمسين عاماً إلى النصف، ولكن البشرية ستكون قد انخفضت إلى النصف أيضا! ما الحل؟

إنه ليس الاتحاد من أجل السلام فحسب، بل والاتحاد من أجل البقاء أيضاً.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية