ها هو محمد الصقر يعلن عدم خوضه الانتخابات محدثا مفاجأة لمن ظنوا غير ذلك، وتاركا فراغا من الصعب ملؤه، وربما يتبعه آخرون كما أشرت سابقا. ولعل بيانه كان صادقاً في التشخيص وتبرير أسباب قراره، وأوضح عمق الأزمة التي نمر بها. فالذي يجعل شخصاً ضامناً للنجاح يعتزل العمل البرلماني، ويقرر العزوف وهو في أوج عطائه وقدراته، لابد أن يكون أمرا أكبر من مجرد تعب أو اكتفاء، أو كما أشار البعض بسذاجة مفرطة الى رغبته في الوزارة أو علمه بأن الحل غير الدستوري قادم قريبا. فلنقل إنه إحساس بضياع البوصلة، أو ربما انه جرس انذار، بمدى تدهور الاوضاع، ووهن القرار، وتشتت المجتمع الى جزيئات صغيرة، ليس من السهل تجميعها.

Ad

ما يجري الآن ليس الا نتيجة للتخريب المنهجي للمسيرة الديمقراطية الذي تم تنفيذه في المرحلة الاولى من مسارنا الديمقراطي، وهي التي استمرت خلال الستة انتخابات الاولى، من 1963 حتى الانتخابات السادسة عام 1985. ففي 1966 صدرت قوانين منافية ومناقضة للدستور، وعلى إثرها وبعد وفاة الشيخ عبدالله السالم في نوفمبر 1965. وترتب على ذلك استقالة عدد من النواب احتجاجا على تلك القوانين. تبع ذلك حل المجلس البلدي الذي كان برئاسة محمد العدساني، والذي سعى إلى إنهاء تبديد الأموال التي على التثمين. فإثر إقرار ميزانية قدرها 200 مليون دينار، وبعد حصر جميع احتياجات الدولة من الاراضي المراد تثمينها، فوجئ الجميع بحل المجلس البلدي وإنفاق الـ200 مليون على التثمين بسرعة عجيبة، واستمر الطلب على ميزانيات اضافية للتثمين من 500 مليون ثم 700 مليون وهكذا. لم يكن مستغربا في تلك الأجواء ان تسعى الحكومة الى تزوير الانتخابات بصورة سافرة في انتخابات 1967، واستقال عدد من النواب الفائزين في تلك الانتخابات احتجاجا على التزوير. كان أداء مجلس الأمة الثاني المزور ضعيفا ركيكا هزيلا، إذ كان مرآة للحكومة، ولنا ان نتخيل بشاعة الاصل لندرك حالة الصورة في المرآة. وهكذا جرت محاولة لترميم الحالة المحزنة للأصل والصورة معاً، فألقى صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد كرئيس للوزراء بيانه الشهير ببيان حزيران، والذي كان بمنزلة اعتذار مبطن عن التزوير، داعيا الى المشاركة الحقيقية. وتحت هذا الانطباع جرت انتخابات 1971. ونتج عن تلك الانتخابات حالة فريدة من التعاون المثمر بين الحكومة والعناصر الفعالة الوطنية العائدة للمجلس، نتج عنها انجازات تاريخية. كان ذلك المجلس حالة استثنائية في تاريخ الديمقراطية الكويتية. ومن ثم جاءت الانتخابات الرابعة 1975 في أجواء اكثر تفاؤلا، إلا أن ذلك التفاؤل لم يدم طويلا «فبوطبيع ما يجوز من طبعه»، فقد تم الانقلاب على الدستور في صيف 1976، دون مبرر يذكر، ودون تأزيم، ولكن برغبة دفينة للتخلص من الدستور، ويكفي ان ندلل على ذلك من خلال خطاب الحكومة في اختتام دور الانعقاد العادي لمجلس الامة، الذي أشاد بالتعاون بين المجلس والحكومة، ولكن ما إن ذهب المجلس في إجازته حتى تحركت جحافل اغسطس، في وسط لفحات الصيف اللاهب، لإيقاف العمل بالدستور. وخلال الاربع سنوات التي غاب فيها الدستور، جرت عمليات تنفيع مالية، وتجاوزات لا حد لها، وظهرت خلالها الشركات الخليجية الوهمية، وولدت فيها أزمة سوق المناخ بدعم علني من الحكومة، حتى الانهيار الكبير عام 1982. وهكذا يتضح أنه قد تمت عملية التخريب المنهجي، وإعادة إنتاج الفساد والفاسدين، وتمكينهم من مراكز القرار، وتحويل العملية السياسية إلى أضحوكة، بل و>شخشيخة>.

إلا أن الامر لم ينته عند هذا الحد، فمازال في جعبة التردي المدفوع بشهوة الانفراد بالسلطة، والطلاق البائن مع كويت الدستور الكثير، كما سنرى لاحقا.

ما نراه اليوم من حالة وهن عامة، وسيادة حالة الضعف العارمة في كل زوايا المجتمع، ما هو الا حصاد مر، وهو ليس إلا نتيجة لما جرى في إطار المرحلة الاولى، وفي ظني أن محاولة إيجاد الحلول لمأزق المشهد السياسي الحالي من خلال البحث عن التفاصيل، ربما، هي كمن يحاول ان يجد علاجا لصداع مزعج باستخدام الاسبرين، وهو غير مدرك ان سبب ذلك الصداع المزعج هو ورم سرطاني خبيث، ظل ينمو ويترعرع فترة طويلة. أعاننا الله على ما هو قادم.