مدرسة مملوكية صغيرة هي التي بقيت من آثار الأمير فخر الدين الذي أراد بناء "مسجد” عساه أن يفلح في استبداله بقصر في الجنة، وطمعاً في أن يغفر الله له كل ما تقدم من ذنوبه، ولكن كتب التاريخ أبت أن تحتفظ باسمه فالمدرسة اشتهرت، وما زالت "بجامع البنات” منذ القرن الحادي عشر الهجري (17م) على الأقل.

Ad

وقد فسر لنا سبب هذه التسمية الرحالة عبد الغني النابلسي الذي زار مصر في عام 1105هـ (1693م) فقال: "إن أهل مصر يعرفون هذا المسجد بمسجد البنات لأن البنت التي لا يتيسر لها الزواج تأتي إلى هذا المسجد يوم الجمعة والناس في الصلاة وتجلس في مكان هناك، فإذا كان المصلون في السجدة الأولى من الركعة الأولى من صلاة الجمعة تمر بين الصفين وتذهب فيتيسر لها الزواج وقد جربوا ذلك” .

أما صاحب البناء ومشيده الذي تكلفت " الخرافة” بمحو اسمه من الذاكرة الشعبية فهو الأمير فخر الدين عبد الغني بن الأمير تاج الدين عبد الرازق بن أبي الفرج نقولا الأرمني الأصل، وقد عرفت مدرسته عند تشييدها بالمدرسة الفخرية أو الجامع الفخري.

وقد سجلت صحائف التاريخ لهذا الأمير أنه " خرب إقليم مصر بكماله وأفقر أهله ظلماً وعتواً وفساداً في الأرض”.

وربما لا يكون في مثل تلك الصفات ما يميزه عن نظائره في هذا العصر، لولا أنه " اجتمع فيه ما تفرق في غيره "فهو على حد تعبير العلامة المقريزي، المعاصرله " كان من بيت ظلم وعسف وعنده جبروت الأرمن ودهاء النصارى وشيطنة الأقباط وظلم المكسة، لأن أصله من الأرمن، وربيّ مع اليهود وتدرب مع الأقباط ونشأ مع المكسة بقطيا " وقطيا بلد قرب الحدود المصرية مع فلسطين كانت تحصل بها الجمارك على الصادرات والواردات العابرة لهذا الطريق.

وقد كان الأمير عبد الغني الفخري من المكسة أي الذين يحصلون المكس الذي كان في نظر أهل عصره "الرجس النجس الذي هو أقبح المعاصي والذنوب والموبقات لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده وتكرر ذلك منه وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حق وصرفها في غير وجهها وذلك الذي لا يقر به متق وعلى آخذه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”.

وسط شرذمة الظلمة الفجرة من المماليك كان فخر الدين عبد الغني الاستادار "أمدهم باعا وأقواهم في الظلم ذراعا، وأنفذهم في ضرر الناس أمراً وأشنعهم في الفساد ذكراً ".

وعمت مصائبه وشروره أنحاء البلاد ففي القاهرة ألزم فخر الدين الاستادار الباعة بأن يشتروا منه السكر والعسل والصابون والقمح وغير ذلك من السلع التي اشتراها من الإسكندرية وبغيرها بأبخس الأثمان فيرميها عليهم بأغلى الأسعار .

وفي الوجه البحري ، فرض فخر الدين على جميع القرى "فرائض” تدفع ذهباً في زمن ندر فيه تداول النقود الذهبية حتى أن من وقع بيده دينار من ذهب أحمر قاني، فكأنما حصلت له البشارة بالجنة، وتشدد عبد الغني في تحصيل الفرضة التي شملت أهل النواحي عن آخرهم ولم يعف عن أحد منهم البتة. ولم يقف أعوانه وأيديهم مغلولة إلى أعناقهم بل مدوها إلى الفلاحين بالنهب والسلب، "فما وصلت إليه مائة دينار إلا وأخذ أعوانه مائة دينار أخرى”.

وأردف الفخري هذا الإجراء العام بآخر اختص به أرباب الأموال وهو المصادرة، فتجمعت له ولأعوانه أموالاً كثيرة من المصادرين، فضلا عن الجواميس التي نهبها من أصحاب الأموال.

ثم ما لبث الاستادار أن أفاض من "ظلم الخاصة” على العامة، عندما قرر طرح الجواميس التي نهبها على جميع النواحي لتباع بالإكراه "فقومت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم، وأكثر ما تبلغ الجيدة منها إلى ألفين” .

ويظهر أن أهل الدلتا أظهروا قدراً لا بأس به من التجلد والاحتمال لكل تلك الرزايا التي أنزلها بهم الأمير فخر الدين، حتى ظن الظالم أن ما وقع بهم لم يذهب بما لديهم من "ثروات” فلجأ إلى إجراء فريد في بابه احتذاه من جاء بعده في العصرين المملوكي والعثماني.

فقد أقر الرجل سعرين لصرف النقود وألزم بهما الصيارفة، فكان السعر الذي تشتري به الدولة أقل دائماً من السعر الذي تبيع به . فالدرهم المؤيدي لا يأخذه الصيارفة إلا من حساب سبعة دراهم ونصف وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم " وألزم الصيارفة أيضاً أن يأخذوا الفلوس النحاس حساباً عن خمسمائة وخمسين درهماً للقنطار في حين يشتري الناس القنطار بستمائة درهم " .

ولم يستثن الاستادار أعوانه من مصادرة الأموال، فكان من حين لآخر "يلزم صيارفته ومقدميه وشادي أعماله ومباشريها وولاتها بمال يقرره عليهم في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس.

أما أهل الصعيد فقد فرض عليهم "فرضة الذهب” التي سبق وأن جربها بنجاح في الوجه البحري وجمع المال من الذهب وحلي النساء وغير ذلك من العبيد والإماء والحرائز اللاتي استرقهن ثم وهب منهن وباع باقيهن وذلك أنه "عمل في بلاد الصعيد كما يعمل رؤوس المناسر إذا هجموا ليلاً على القرية فإنه كان ينزل ليلاً على البلد فينهب جميع ما فيها من غلال وحيوان ويسلب النساء حليهن وكسوتهن بحيث لا يسير عنها لغيرها حتى يتركها عريانة فخربت بهذا الفعل بلاد الصعيد”.

ومن الصعيد أعاد فخر الدين عبد الغني الكرة مرة أخرى ففرض ما سلبه من غنائم الصعيد على نواحي الوجه البحري والقاهرة بأغلى الأثمان.

هذا السجل الحافل بالإنجازات الشيطانية، كان كفيلاً بإقناع السلطان المؤيد شيخ بمدى علو همة أستادارة، فأضاف إليه الوزارة عام 821 هـ " فباشرها بعنف وقطع رواتب الناس وصار في كل قليل يصادر الكتاب والعمال وبالغ في تحصيل المال وإحرازه” .

وعندما وافى الفخري أجله المحتوم في منتصف شوال عام 821 هـ كان الرجل يتولى ثلاثة وظائف دفعة واحدة هي الاستادارية والوزارة ونظر الإشراف، وقد جمع عبد الغني السنوات الثلاث السابقة على قبضة ما لم يجمعه غيره في ثلاثين سنة ، ولا أحد يدري ما الذي كان فاعله بنا لو طال به الأجل وامتد حبل عمره ولم ينقطع عند سن السابعة والثلاثين ربيعاً؟!.