الموظف الفاسد ... من صنعه؟ أخلاقيات المهنة في تدنٍ بسبب الأمان من المحاسبة
الجهاز الإداري للدولة بيئة تحمي موظفيها من الرقابة، وتكفل توظيفهم، وتفصّل الرواتب بعيدا عن الإنتاجية، ومدخول النفط يغطي كل مصاريف هذه البيئة التي تكفل ولادة موظفين فاسدين يطالبون بالمزيد من الاعطيات والزيادات.
يحكم الوظيفة العامة في الكويت إطاران قانونيان الاول في نص المادة (41) من الدستور، التي تدفع الدولة الى قيامها بتوفير العمل الوظيفي دون إلزام، والثاني المرسوم بقانون رقم 15 لسنة 1979 بشأن الخدمة المدنية، واذا كان الدستور كوثيقة للمبادئ العامة قد ربط مسألة التوظيف بقدرة الدولة على توفير الوظائف العامة كمبدأ عام فإن قانون الخدمة المدنية لم يول اهتماما كافيا بمسألة اخلاقيات الوظيفة العامة وهو موضوع ملفنا اليوم.صورة الوظيفة العامة في الكويت (الحكومية تحديداً) اصبحت اليوم مبتذلة، عنوانها الاستفادة من الرواتب العالية، وقلة الانتاج، وعدم الانجاز، وضعف المحاسبة والرقابة على سلوك الموظفين والترقيات العشوائية... وعناوين أخرى سيئة.وتعتبر دولة الكويت من الدول النادرة عالميا في مجال التوظيف، فهي توظف نحو 80% من المواطنين، نصفهم بحسب تقرير المثال الاقتصادي بطالة مقنعة، ويصل مجموع العمالة الوطنية 311.7، ويعمل في القطاع العام منهم 259 فردا، وفي القطاع الخاص 52 ألف فرد.بحسب طبيعة الاقتصاد الكويتي أحادي المورد يمول مدخول النفط 90% من المصروفات العامة، وهذه الصورة تعبر عن جدلية يصعب معها الحديث عن الاصلاح الاداري تحديداً، والاصلاح السياسي بشكله العام وهو الأهم.وتعتبر تكلفة الموظف الكويتي باهظة جدا على الدولة، ففي تقرير للبنك الدولي نشر في الربع الأول من العام الحالي بشأن انظمة الوظائف الادارية في الكويت قال إن 40% مما يحصل عليه الموظف الكويتي هو راتب اساس، بينما 60% من مجموع الراتب عبارة عن بدلات وعلامات اجتماعية وعلاوة أولاد، وذلك في إشارة واضحة الى عدم ارتباط الراتب بالعمل الذي يؤديه الموظف.وعلاوة على ذلك يستنزف باب أجور الرواتب من ميزانية الدولة العامة نسبة كبيرة تصل الى النصف تقريبا، ففي اكتوبر 2007 أطلق البنك الدولي تحذيراً مهما يؤكد فيه ضرورة توسيع استيعاب القطاع الخاص لمسألة التوظيف، حيث إن باب الاجور والرواتب يستنزف 45% من ميزانية الدولة! وهو رقم مهم إذا ما قورن بضعف الانتاجية والتوظيف الاجتماعي السياســي الذي أفســــد الجـــهاز الاداري للدولة. وقد قفزت الزيادة على الرواتب منذ عام 2001 الى 2008 من مليارين الى 4.8 مليارات! ونظراً لقلة استيعاب القطاع الحكومي للعمالة الوطنية، فالباب يضيق أمام توظيفهم خصوصا إذا ما عرفنا ان سوق العمل الوطني يواجه سنويا 20 ألف طالب عمل. أردنا مما سبق ان نرسم صورة مبسطة لشكل ونمط الجهاز الاداري الحكومي المترهل، والذي يمكن وصفه بأنه نظام تأمين معيشة وليس نظاما للأداء والانتاجية، وهي صورة صنعتها الدولة في الأساس من خلال اعادة تنفيق عائدات النفط، وكان أحد قنواتها التوظيف في الدوائر الحكومية، اضافة الى سياسة التثمينات.وقد بسطت هذه المواصفات صورة نمطية للوظيفة الحكومية في ذهن المواطنين الذين لايزالون يتشبثون بها، لأنها تؤمن لهم الاطمئنان والراحة وعدم المحاسبة والراتب الدائم والمغري، وكنتيجة لغياب الرقباء والمحاسبين على الاداء تفشت في الدوائر الحكومية مظاهر الفساد المختلفة كانعدام الانضباط في العمل، والتغيب المتكرر واستهلاك الوقت بالاجازات المرضية، وعدم الانجاز وقلة احترام الجمهور، واليوم تواجه الدولة تركة ثقيلة عمرها نحو 6 عقود من الزمن وجد الموظف في وظيفته صورة المكان الآمن لمعيشته، وليس لاداء مهام محددة، ومن الصعب ان تتغير هذه النظرة بالشكل الذي يتصوره بعضنا، لان الجهاز الاداري للدولة متخم بالموظفين، ويعتمد في تمويله على مصدر واحد وهو النفط في مقابل قطاع خاص محدود الامكانات، ولا يقبل بنمط التربية الادارية التي ترعرع فيها معظم المواطنين، ولا توجد في الافق اي بوادر مشجعة للاصلاح، فالدولة بجهازها التشريعي والتنفيذي ماضية في اغراق المواطن بالمزيد من الاعطيات والمزايا التي لا تمس مفهوم الانتاج والعمل، وبحسب تقدير مكتب الشال الاقتصادي فان المنح والزيادات والكوادر واسقاط فواتير الكهرباء والماء قد كلفت الدولة في 15 أشهر امتدت ما بين عامي 2006 و2007 نحو مليار و21 مليون دينار، وهو نوع من الامعان والادمان معا في رفد الصورة النمطية للوظيفة الحكومية على انها المكان الاكثر امانا للمواطن اجتماعيا.وقد اكد تقرير جهاز خدمة المواطن، الذي اعد بالتعاون مع البنك الدولي، ونشر في ديسمبر 2004 جملة من الاسباب التي تؤدي الى الفساد الاداري في الجهاز الحكومي التنفيذي.ومن بين تلك الامراض عدم ارتباط الاصلاح الاداري بالاصلاح السياسي وانعدام الحيادية في التعيينات وضبط القيود والمفاهيم الحقيقية للاخلاق المهنية، وتضارب مصالح النواب التشريعيين الذي يؤخر اصدار تشريعات رادعة للفساد الاداري وعدم ايصال نصوص القيم الاساسية للخدمة الحكومية لكل العاملين في الاجهزة والادارات الحكومية وغياب الرقابة على اجراءات التعيين والترقيات في الاجهزة الحكومية وضعف عمليات التدريب لرفع الاحساس باخلاقيات العمل.الرميحي: الوظيفة لها حرمة...لست متأكداً!في مداخلة له بشأن أخلاقيات الوظيفة العامة، قال أستاذ علم الاجتماع ورئيس تحرير صحيفة «أوان» د.محمد الرميحى: «لست متأكداً اليوم أن الوظيفة لها تلك الحرمة التي نفترضها لدى كثيرين، فهناك استنفاع بالوظيفة العامة، وهناك استغلال لسلطتها، وهناك تعسف في تطبيق ما لدى الموظف من سلطات، وذلك بسبب غياب الضمير أولاً وغياب الرقابة ثانياً.وعزا الرميحى ذلك بقوله «ربما السبب الأساسي هو غياب الرقابة الداخلية من (ضمير الموظف) أو بسبب غياب الرقابة الخارجية، أو بسبب تهاون المجتمع وشيوع فكرة (مال عمك لا يهمك) وهي كلها مظاهر سلبية معيقة للتنمية، كما أن السياسيين لا يلتفتون إليها بالجدية الكاملة، ولعلي أقول إنهم بطريقة أخرى يشجعونها».أخلاقنا في رمضانقام ديوان الخدمة المدنية بعمل احصائية للاجازات المرضية خلال شهر رمضان منذ عام 2006 على 35 جهة حكومية، وتبين وجود 14992 طلب اجازة، وبلغ عدد الايام لجميع تلك الطلبات 39729 يوما، وكانت وزارة التربية الجهة الحكومية الاولى في طلب مثل هذا النوع من الاجازات، حيث استحوذت على 13679 يوما.