لم يسقط إيهود أولمرت جراء تقرير فينوغرادوف وما أشار إليه من مواطن التقصير والإخفاق في قيادة حرب هي تلك التي خيضت، بذريعة «حزب الله»، تدميرا شاملا ضد لبنان في صائفة 2006، ويتحمل رئيس الحكومة العبرية المستقيل مسؤوليتها، إن لم تكن العسكرية فالسياسية على الأرجح والمعنوية بالتأكيد، ولا هو سقط (دعنا نحلم قليلا) بسبب الحصار الجائر القاتل الفتاك الذي ضربته حكومته على قطاع غزة، استوى فضيحة أخلاقية كبرى فاستثار الضمير الإنساني الذي استنكر وضغط حتى كان التجريم وكانت الاستقالة، بل إن ما جر الاستقالة على أولمرات أمر داخلي بحت، مغرق في محليته، مسألة فساد وارتشاء، فادحة في ذاتها ولكنها محدودة التبعات في نهاية المطاف.
قد يجد بعضهم في ذلك أمارة على ديمقراطية إسرائيل وعلى التفوق الأخلاقي لديمقراطيتها تلك، وذلك صحيح حتى وإن كانت الديمقراطية المذكورة إثنية، أي حصرية، لا تنطبق إلا على مواطني الدولة العبرية من اليهود ولا تشمل سواهم، غير أن ذلك، وهو تحصيل حاصل، قد لا يكون أهم ما تفصح عنه تلك الحادثة أو أن مغزاها يقع على صعيد آخر.إذ تفيد الحادثة تلك أن محرك الحياة السياسية في الدولة العبرية يبقى الاعتبارات الداخلية، فما تختلف حوله الأحزاب وتتساجل، وما يستثير الأزمات، وما يتحدد على أساسه موقف الناخبين وخيارهم، إنما هي المسائل الداخلية. قد يكون ذلك من صلب الممارسة الديمقراطية ومن سماتها الفارقة، لا تحفل البتة أو لا تحفل إلا قليلا بالقضايا الخارجية، على ما تدلّ الحملات الانتخابية في بلاد الغرب والمحاور والمشاغل التي تحتل موقع الصدارة منها وفيها. غير أن للظاهرة تلك في إسرائيل خصوصية تبلغ مبلغ المفارقة، إذ الخارج، بالنسبة إلى ذلك الكيان، لا سيما إذا ما تمثل في الفلسطينيين وفي قضيتهم ومطالبهم، داخلٌ، بحكم الضرورة التاريخية والسكانية، ومنطق الأشياء. لذلك قد لا يستقيم تفسير لتلك الظاهرة إلا بافتراض أن الصهيونية، إذ اصطنعت مجتمعا وداخلا من عدم، كان عليها تبعا لذلك واستطرادا أن تصطنع خارجا، وقد تعلق فعل الاصطناع ذاك، بداهةً وفي المقام الأول، بالفلسطينيين، بُعدا من أبعاد اجتثاثهم من أرضهم وتغريبهم عنها.كل ذلك للقول، إنه من خطل الرأي ومن سقيم الاستقراء، المراهنة على اختلاف الرأي بين الإسرائيليين بشأن المسألة الفلسطينية. سنوات طوال من التفاوض حول التسوية، منذ اتفاقات أوسلو، دلت على أن لا فارق جوهريا، في مقاربة مسألة التسوية، بل العلاقات مع المحيط العربي عموما، بين الإسرائيليين، يمينا كانوا أم يسارا أم وسطا. هنالك بطبيعة الحال تمايز بين مختلف تياراتهم في النبرة وفي الخطاب وفي أسلوب التعامل، في تفاصيل التعاطي مع موضوع التسوية، أو لنقل على نحو قد يكون أصح، في طريقة الامتناع عنها، ولكن لا خلاف في الجوهر على ما هو محلّ إجماع، قوامه عدم الإقرار بالحقوق الفلسطينية.صحيح أنه قد تبدى، أيام الانقسامات الإيديولوجية الكبرى، تمايز بين يمين إسرائيلي، كان يستبعد فكرة الدولة الفلسطينية استبعادا تاما، ويسار آل إلى الإقرار بها. لكن التمايز ذاك، كان يتعلق بالألفاظ دون معانيها. فالدولة الفلسطينية كان ولايُزال يُنظر إليها على أنها خلوٌ من مقومات السيادة، ضرب من سلطة محدودة على الناس دون الأرض، ما يلتقي في نهاية المطاف، مع المواقف التقليدية لليمين.وهكذا، يكون من قبيل المضيعة للوقت وتبديد الجهد السعي إلى استخلاص فارق في النظرة إلى مسألة «التسوية» مع الفلسطينيين وقضيتهم من اختلافات الإسرائيليين واصطفافهم أحزابا وتباينهم تيارات وعوائل رأي. وإذا ما صح ذلك في شأن التداول على السلطة، داخل الدولة العبرية، من قبل أغلبيات وشخصيات من أحزاب مختلفة، مع الإقرار بنسبية ذلك الاختلاف كما أسلفنا، فإنه يكون أكثر صحة إذا ما تعاقبت على رأس السلطة شخصيتان متأتيتان من الحزب نفسه، على ما حصل أخيرا بحلول تسيبي ليفني محل إيهود أولمرت واستلامها مقاليد الأمور في قيادة حزب «كاديما» وحكومة الدولة العبرية. أي أن الأمر ذاك، منظورا إليه من زاوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ليس أكثر من لا حدث، لن يستجلب من تحولات غير تلك الهامشية أو التفصيلية، الناجمة عن المواصفات والملامح الشخصية وطريقة التعبير عنها.ذلك أن الفلسطينيين، وهم، على ما أسلفنا، وإن كانوا بالنسبة إلى المشروع الصهيوني خارجٌ، إلا أنهم ليسوا خارجا عاديا، من النوع الذي قد يتغير موقعه وقد تتحول طبيعته في سلم العداء والصداقة، الحرب والسلم، من النوع الذي تصح فيه مقولة إن «لا عداوات ثابتة ولا صداقات ثابتة» في العلاقة معه، بل هم «خارج» ثابت، أصلي، جوهري، «خارجيته» تلك من صلب المشروع الصهيوني فلا يقوم ولا يستوي ولا يجد في نظر نفسه من تسويغ ومن شرعية من دونها.*كاتب تونسي
مقالات
ليفني... وجوهر الصراع
23-09-2008