بفعل تكوينها كهيكل سياسي جامع ومقر حصري للسيادة، أو بتأثير الملابسات التاريخية لنشوئها على نسق الدولة- الأمة الغربية (وعلى يديها غالبا)، فإن الدولة العربية الحديثة «علمانية» من حيث المبدأ. قد تكون العربية السعودية استثناء جزئيا لهذا الحكم، أما الدول الأخرى فتنسخ بنية الدولة الحديثة في الغرب، دولة تطل على مجتمع من سكان متنوعين، تخاطبهم كمواطنين، وعلى مجتمع الدول العالمي، العلماني.
على أن علمانية الدولة العربية كانت موضوعية واضطرارية، تحصلت من العيش في عصر وعالم علمانيين، وليست ذاتية ومختارة، وهي تاليا غير متسقة أو واعية بذاتها. هذا يصح حتى على «الحقبة القومية» التي زودت بعض الدول العربية بعقيدة تعبوية، مكنتها من تعزيز دوليّتها، جوهرها الدولوي، وبالتبعية علمانيتها. غير أن هذه ظلت علمانية تحصيلية، إن صح التعبير، هشة وضعيفة الشخصية. ورغم أن «الدولة القومية» تلك أبرزت انتسابا جديدا للأمة وللفرد، متميزا عن الانتساب الديني والمذهبي، فإنه بقي انتسابا إيديولوجيا، لم يتأسس على استقلال ناجز عن الأمة الدينية والروابط الأهلية. بل إن موقف الدولة هذه، المتحفظ حيال الحرية الفكرية والنقد السياسي والاجتماعي والديني، وكل أشكال الاستقلال والتنظيم الاجتماعي، حرم العلمنة الموضوعية من تطوير وعي ذاتي محتمل، وأبقاها رهينة دولة كانت ترتد قدما إلى سلطة جهازية خاصة. تاريخ هذه الدولة في العقود الثلاثة الماضية، في سورية ومصر والعراق والجزائر...، هو تاريخ تآكل العلمنة الاجتماعية والثقافية والقانونية من وجه، وتاريخ ترسخ الطابع الجهازي (غير المؤسسي) لسلطتها من وجه آخر. في مثل هذه الشرط، ما يبقى من العلمانية محمولا على ما بقي في السلطة الجهازية من مبدأ الدولة، هو آثار «العلمانية الموضوعية»، الهشة وضعيفة الشخصية أصلا كما قلنا، والعاجزة من ثم عن وعي ذاتها والدفاع عن ذاتها. ونريد أن نبني على ذلك أنه كلما كانت الدولة قوية في العالم العربي، أعني أنها مقر حصري للسيادة، مستقل حيال الداخل (المجتمع الأهلي والدين...) والخارج، كانت أكثر علمانية؛ وكلما ضعفت وتدهورت «دوليتها» واستقلالها تدنى مستوى علمانيتها. فالدولة هي حامل العلمانية، أو وسيط العلمنة الأساسي، إن في التعليم أو الإعلام أو الإدارة أو الجيش أو الاقتصاد... فإذا ضعفت خف وزن ما تحمل من علمانية، وانطلقت سيرورة موضوعية معاكسة لنزع العلمنة واصطباغ الدولة والحياة العامة بالصبغة الدينية والتبعثر الأهلي. وهذا ليس صحيحا عندنا وحدنا، بل هو صحيح في كل مكان في تقديرنا. وهو منبثق من كون الدولة مقر السيادة العليا، العامة والمستقلة، أي من نزعها السيادة من الأجهزة الدينية، وتعاليها على الجماعات المحلية والأهلية. ولعله يمكن منذ الآن أن نبني على هذا التقدير خطة سياسية تستند إلى فكرة أن تعزيز فرص العلمانية في بلداننا تقتضي تعزيز الدولة وتقويتها. فمن شأن دولة ضعيفة، تعاني قصورا سياديا، أن تستنفر الدين كمصدر لشرعية واعتبار تفتقدهما، مع ما هو معلوم من أن الدين الإسلامي يحمل مطامح سيادية معلنة. وهو ما يدخل الدولة في دوامة: قصورها السيادي يدفعها إلى الاستناد إلى الدين الطامع في احتكار السيادة لنفسه، فتزداد ضعفا وقصورا سياديا. فيما من شأن دولة قوية، أي أرسخ سيادة، أن تطور مقاربة أكثر استقلالية عن الدين، وأن تعرف نفسها على أرضية السياسة وحدها. غير أننا نفهم تقوية الدولة بأنها تدعيمها في آن ضد المجتمع الأهلي وضد السلطة المحض التي آلت إليها الدولة في أكثر البلدان العربية. وفي هذا نفترق عن الطبعة العلمانية الرائجة عربيا، التي يقودها تثبتها حول تعريف العلمانية بدلالة الدين حصرا إلى مواقع قريبة من نظم الحكم، حتى الأكثر جهازية وفئوية منها. وهو ما يتعارض فيما نرى مع التزام المثقف الجوهري، قبل أي تحديد إيديولوجي له. والواقع أن ارتداد الدولة إلى سلطة، أي تسخير جهاز الدولة لخدمة طرف اجتماعي بعينه، قد سار جنبا إلى جنب مع «أهلنة» مجتمعاتنا، أو تثبيت صفة أهلية انقسامية متأصلة فيها. من جهة، احتكار السياسة بحد ذاته يدفع إلى انتظام المجتمعات المحكومة أهليا كاستراتيجية للاستحواذ غير المباشر على السياسة المحرّمة؛ ومن جهة أخرى، قد تندفع أطقم السلطة المستبدة ذاتها إلى الاستناد إلى عصب أهلية من أهل ثقتها كاستراتيجية للسيطرة السياسية وتأمين النظام، فتشكل الأطقم هذه «الطبيعة الطابعة» التي يتشكل المجتمع المحكوم على صورتها ومثالها. وهكذا تتشكل حلقة مفرغة. مزيد من تراجع الطابع العام لسلطة الدولة يفضي إلى تطييف المجتمع، وهذا يضمن البيئة الانقسامية المناسبة لمزيد من احتكار الدولة. بالعكس، من شأن تقوية شخصية الدولة، وتاليا امتناعها على «الشخصنة» واستقلالها عن نخبة الحكم، أن تدعم طابعها العام، فتقلل من دواعي انتظام المجتمع أهليا. من شأنها كذلك أن تتيح مناخا أنسب ليتشكل المجتمع المحكوم على صورة جديدة، أكثر تفاعلا وعمومية ومدنية. هذا دون أن نتكلم على جهد قصدي، لا غني عنه، تقوم به الدولة العمومية لنزع وتغريم وضرب التشكلات الطائفية؛ وهو جهد يقتضيه مفهومها ذاته. فالدولة القوية لا تمتنع فقط عن الارتداد إلى سلطة جهازية فئوية، وإنما لها دور تدخلي يمنع التشكل الطائفي ويطور ما يجدي من سياسات تعليمية وإدارية واقتصادية وإعلامية للجمها. لكن هل تتوافق خطة تقوية الدولة مع الديمقراطية؟ هذا ما سنتناوله في مقالة لاحقة. * كاتب سوري
مقالات
في العلمانية والديمقراطية والدولة (1- 2)
09-10-2008