مهلاً... إنها تركيا
مَن سارع إلى الاحتفاء بالدور التركي بعد «انتفاضة» أردوغان على الصحافي دايفيد أغناثيوس في «دافوس» عليه «أخذَنا بحلمه» قليلاً، فجمهورية أتاتورك لم تفصم عراها مع الدولة العبرية بعد، وإسلاميو أنقرة الحاكمون في ظل العسكر العلماني طلاب سلطة ومصالح قومية قبل أن يكونوا ذوي مشاعر إنسانية رفيعة، وعلى ضميرهم الجمعي كمية كبيرة من الاعتذارات.
من باب السخافة القول إن «تركيا ضدنا» هي نفسها «تركيا معنا»، فمن واجب العرب الترحيب بكل تأييدٍ حتى ولو من حفنة معارضين داخل إسرائيل. لكن من الخفة أيضاً أن نؤخذ بالدعم التركي ونتوقع من أنقرة إنهاء عقودٍ من التحالف مع تل أبيب أو الانسحاب من الحلف الأطلسي لمجرد أن رجب طيب أردوغان أراد الرد بقوة على شمعون بيريز، فلم يحظَ بفرصةٍ لكنه حظي بسبقٍ إعلامي وبتهليلٍ وحشدٍ من المستقبلين الحزبيين في مطار أنقرة الدولي. نعلم جميعاً الديباجة التي تقول إن تركيا دولة صاعدة في المنطقة بدأت تستعيد هويتها الشرقية، وإن «الشارع» التركي «مناضل» بدأ في ظل ورثة «حزب الفضيلة» يتحسّس مشاعر الأمة الإسلامية، لكننا نعلم أيضاً أنّ آلاف المسلمين في دارفور الذين أبادهم نظام الرئيس السوداني في السنوات الثلاث الماضية، لم يدفعوا أردوغان ولا عبدالله غول إلى كلمة استنكار، ولماذا يستنكران مادام معلّمهما نجم الدين أربكان لم يعترض يوماً على سياسة العسكر التركي إزاء الأقلية الكردية في تركيا المقدرة بنحو 12 مليون إنسان محرومين من أبسط الحقوق القومية والإنسانية يتعرضون يومياً للامتهان؟ هذا إنْ لم نذكر الحملات العسكرية البرية والجوية على «حزب العمال الكردستاني» داخل كردستان وصمت الأتراك المعيب، علمانيين وإسلاميين، إزاء إبادة صدام بالأسلحة الكيماوية لقرى كردية عن بكرة أبيها في الثمانينيات. تركيا تتغير؟ نعم، لكن لا ضرورة للاستعجال، فما شهدناه في شوارعها نوعٌ من الهيجان الموقت شبيه بما حصل في شوارعنا. شعاراتٌ وأحذية رُفعت في تظاهراتٍ لم نقع فيها على يافطةٍ تطالب بترك الأطلسي أو بفتح باب التطوّع للقتال. ولم يلفتنا حجم تبرع تركي لإعادة إعمار غزة ولا أموال زكاة تركية حُوِّلت للتخفيف من الأضرار. ليس ذلك فحسب، بل إن الأتراك أكدوا قبل أيام أن برنامج التعاون العسكري مع الجيش الإسرائيلي مستمر، وأن التضامن مع غزة شيء والعلاقات مع الكيان الصهيوني شيء آخر. نقرّ حتماً بأنّ تركيا تلعب دوراً ديناميكياً جديداً في المنطقة، دوراً فرض نفسه لجملة أسباب، من بينها الإحباط من الانتماء إلى أوروبا، ونكسات التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق، وضعف السُنّة العرب في معادلة القوة الشيعية المتمددة زحفاً من طهران. بيد أن أنقرة تلعب حتى اليوم دور الوسيط وليس الحليف. وليس محسوماً على الإطلاق مدى النزاهة في تلك الوساطة، فهي، على سبيل المثال، احتضنت مفاوضاتٍ غير مباشرة بين سورية وإسرائيل رغم أنها سمحت قبل أشهر بمرور الطائرات العسكرية الإسرائيلية فوق أراضيها لضرب «المفاعل» السوري في بوكمال. لا أحد ينكر أن تركيا حققت في الأشهر الماضية إنجازاتٍ دبلوماسية عدّة في الإقليم، وهي لاتزال «تختبر الأرض» وتتحسس أماكن الاستفادة والقدرة على التسرّب من الشقوق. وهي نجحت في تغيير صورتها لدى «الشارع» العربي، رغم أنها لم تأتِ بشيء محسوس، بل على العكس حاولت تأخير وقف إطلاق النار في غزة بالتنسيق مع «محور الممانعة» لإزعاج الدور المصري، ففشلت متسبّبةً بمزيد من الدماء تفجّع عليها أردوغان وحصدت له ارتفاعاً في الشعبية واستطلاعات الرأي التركية. لا بأس أن تصبح تركيا وسيطاً أو محايداً بالنسبة إلى قضية فلسطين بدل أن تكون نصيراً لواشنطن ومتواطئاً مع إسرائيل، لكن يجب ألا نغرق في شبر ماء ونبدأ بالاحتفال، فهي تقدّم مصالحها على المبادئ، وبالتالي فإن مواقفها قابلة للارتداد. تحتاج السياسات التركية مع العالم العربي والمسلمين فترة كبيرة من الاختبار. فقبل سنوات قليلة ذكرنا المسلسل السوري «إخوة التراب» بفترة استعمار بني عثمان المدمر للحجر والبشر، ولا ننسى طبعاً أن من رد على بيريز متبجحاً بكونه «رئيس وزراء دولة اسمها تركيا» وليس «شيخ قبيلة» هو رئيس وزراء دولة لاتزال بعنجهيتها تذكرنا بـ«لواء الإسكندرون» السوري السليب الذي أسقطه كل العرب من الحساب. قد يكون العيش في الماضي أمراً غير مستحبّ. هذا أكيد، لكنّ وظيفة الذاكرة إعادة إحياء التجارب لاستخلاص العبر، والتضامن التركي اليوم مع أطفال غزة لا يلغي صفحاتٍ سود من تاريخ الإمبراطورية التي ذبحت أكثر من مليون ونصف المليون أرمني، ولا تعترف بأنها اقترفت جرماً على الإطلاق، وتأبى حتى مجرّد اعتذار! السفارة التركية ترد على مقال مهلاً... إنها تركيا قرأنا بأسف بالغ المقالة التي نُشرت في صحيفتكم الغراء تحت عنوان «مهلا... إنها تركيا» بقلم السيد بشارة شربل، في عددكم الصادر بتاريخ 8 فبراير 2009. لقد أسفنا لقراءة هذا المقال الذي ظهر في بدايته وكأنه تحليل لدور تركيا في الشرق الأوسط، إلا أنه تحول تدريجيا بقراءاته ليصبح ورقة مليئة بأمور تتناقض مع الحقائق، ويحتوي على ادعاءات غير محمولة وغير مقبولة ضد تركيا، وبدلا من إعادة عنونة كافة التعابير الخاطئة في هذا المقال، أرغب في الرد على بعض النقاط المحددة التي تحذف بعض الحقائق وتقوم على ادعاءات مغلوطة تتعلق بتاريخ وحاضر تركيا. تبدأ المقالة بتقييم السياسة الخارجية التركية حيال الشرق الأوسط بعد قمة دافوس، لكن نية الكاتب كانت مغايرة تماما لهذا الهدف، فمن أول الملاحظات غير المقبولة من صاحب المقال كانت بشأن وضع الإقليم التركي هاتاي، الذي هو وفقا لاتفاقات قانونية طبقا للقانون الدولي، جزء من تركيا منذ عام 1939، وبدون ذكر أي كلمة تتعلق بالأساس القانوني، عمد الكاتب إلى طرح سؤال حول الوضعية الشرعية للأراضي التركية. وهذا يمثل هجوما لفظيا على سلامة الأراضي التركية، يجب رفضه بشدة. وادعاء آخر غير متوقع، في المقال المذكور بخصوص كفاح تركيا ضد إرهاب الـPKK لقد انتقد الكاتب العمليات العسكرية الشرعية التي يقوم بها الجيش التركي ضد الـPKK، كما أنه قد صنف الأراضي التركية على أنها جزء من «كردستان». دعني أذكركم بحقيقة بدأت منذ عام 1978، وهي أن النشاطات الإرهابية الـPKK قد حصدت أرواح أكثر من ثلاثين ألف مواطن تركي بين مواطنين أبرياء من أساتذة وأطباء ومدنيين. إن الـPKK، هي منظمة إرهابية تمول أعمالها المشينة بشكل رئيسي بجمع الأموال من تجارة المخدرات وتهريب السلاح والمتاجرة بالبشر، وحاليا هذه المنظمة محظورة في كل من فرنسا، ألمانيا والمملكة المتحدة كما أنها مصنفة على لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية لدى الكثير من الدول. وبتاريخ 2 إبريل 2004، تم ضم الـPKK إلى قائمة الكيانات والمنظمات الإرهابية في الاتحاد الأوروبي. والادعاء الثالث بأن أكثر من «مليون ونصف أرمني قتلتهم تركيا»، لا يعكس الحقيقة بأي حال من الأحوال، فأبحاث الكثير من العلماء بما فيهم العديد من المؤرخين الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين تدعم وجهة النظر التركية المتعلقة بتلك الأحداث. ففي عام 2005، وجهت تركيا دعوة إلى أرمينيا، تدعو من خلالها إلى إقامة لجنة مشتركة تتكون من مؤرخين وخبراء لدارسة تطورات وأحداث 1915. رابعا: لقد قام الكاتب باتهام تركيا بفتح أجوائها أمام الطائرات الإسرائيلية لقصف منشآت «الكبار» السورية، وهذا الادعاء أيضا لا يعكس الحقيقة، فعلى العكس تماما، فقد سبب انتهاك الأجواء التركية ردود فعل عنيفة لدى السلطات التركية، وقد تم رفع الاحتجاج التركي الشديد لعناية السلطات الإسرائيلية. أما فيما يتعلق بموضوع غزة، فيجب التوضيح بأن تركيا كانت إحدى الدول الرائدة التي أرسلت المعونات الإنسانية إلى المنطقة خلال وبعد الأزمة. هذا بالإضافة إلى قيامها بالمحادثات مع جميع الأطراف وإقامة غطاء دبلوماسي فعال، ودعم كافة الجهود المصرية خلال العملية التي قادت إلى قرار وقف إطلاق النار أحادي الجانب، حيث تم طلب المساهمة التركية من قبل مصر. ولقد كان للوساطة التركية تأثير كبير على قرار وقف إطلاق النار، حيث تم مدح هذه الجهود التي تم بذلها في سبيل تحقيق سلام دائم وعادل في غزة خلال الزيارة التي قام بها رئيس جمهورية مصر العربية السيد حسني مبارك إلى تركيا في 11 12 فبراير 2009. وأخيرا وليس آخرا، فإن أحد المبادئ الأساسية في سياسة تركيا الخارجية، هي عدم التدخل في النزاعات الإقليمية أو العربية الداخلية، لقد وقفت تركيا على بعد مسافة متساوية مع كافة الأطراف. إنني أتساءل، أي هدف هذا الذي تخدمه مثل هذه الادعاءات التي تم ذكرها في المقالة في فترة تتم فيها تطورات هامة في العلاقات التركية العربية مثل إقامة علاقات مؤسساتية بين تركيا وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي؟ مع تفنيدي لهذه الحقائق فإنني على ثقة تامة بأن جريدة «الجريدة» ستقوم مشكورة بنشر رسالتي هذه كرد على هذه المقالة المثيرة للجدل والتي تحوي ادعاءات وتحديات تمس وحدة الأراضي التركية. يونس أمره كوتشاك سكرتير أول سفارة الجمهورية التركية لدى دولة الكويت»