«يجب الذي يجب... يدعو لأندلسٍ إن حوصرت حلب»
* * *جاء هذا البيت في رائعة من روائع الشاعر الكبير محمود درويش خلال حصار بيروت في عام 1982، وهو ينطبق الآن على واقع غزة حيث هناك من لا يكتفي بـ«الفرجة» على المشهد المأساوي عن بعد، بل يذهب الى المزايدة على شعب محاصر يتعرض لإحدى أبشع مذابح التاريخ ويطالبهم بالصمود حتى آخر نفسٍ وآخر قطرة دمٍ، ورفض كل ما هو أقل من التحرير الكامل ومن البحر الى النهر. يقول هؤلاء ان الحديث عن وقف إطلاق النار مرفوض، وهو يضع أصحابه الى جانب العدو، ويقول هؤلاء إنه حتى إن أُبيدت غزة عن بكرة أبيها فإن المقاومة «الصامدة» يجب ان تستمر، وأن القتال يجب ان يتواصل وأنه يجب ألّا يكون هناك نقاش في أي حلٍّ دولي لا يضمن انسحاب القوات الإسرائيلية الغازية من دون قيد ولا شرط، ولا ينص على فتح المعابر كلها وليس فتح معبر «رفح» وحده، ومن دون ان يتكرس توجه حركة «حماس» الرافض لاتفاقيات أوسلو وما ترتب عليها من تفاهات واتفاقات كخريطة الطريق و«أنابوليس» وقرار مجلس الأمن الدولي الأخير والرافض لمبادرة السلام العربية. إن هذه عادة عربية قديمة، إذْ بدل ان يتحلى العرب، بعد هزيمة يونيو المُنكرة في عام 1967، بالواقعية ويواجهوا العالم بخطة معقولة وقابلة للتطبيق، لجأوا الى الهروب الى الأمام بعيداً، وأصدروا من خلال قمتهم التي انعقدت في السودان لاءات الخرطوم المعروفة «لا صلح لا مفاوضات لا اعتراف»، التي ألزموا بها المقاومة الفلسطينية الناشئة، والتي لم تستطِع التخلص منها إلا بعد ان ذاقت الأمرّين وبعد تجارب قاسية وصعبة. إنه لا اعتراض على ان يمارس «المزايدون» هواياتهم، وأن يستعينوا بالشعارات المحلقة في السماء لاستجداء هتاف الجماهير العربية «الغفورة»، واستجداء شعبية رخيصة لو ان غزة صامدة بالفعل ولو أنها غير مقطعة الأوصال وتلقّن «العدو الصهيوني» درساً لن ينساه، أما وأنها تُذبح من الوريد الى الوريد وأن الواقع الفلسطيني والعربي والواقع الدولي أيضاً هو هذا الواقع، فإنه لابد من التحلي بفضيلة التواضع والاكتفاء من الغنيمة بالإياب وانتزاع قرار دوليٍّ انتـزاعاً بوقف إطلاق النار أولاً ثم بعد ذلك يجري الحديث في القضايا الأخرى. ربما أن بعض «المزايدين» الذين أطربهم هتاف المظاهرات التي غرقت بها القضية الفلسطينية منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل في عام 1948 وحتى الآن، لا يعرفون ولا يدركون ان هناك من دفع غزة نحو هذه المذبحة البشعة في إطار مخطط هدفه إشاعة الفوضى في هذه المنطقة وانتـزاع الشارع العربي من أيدي أنظمته، وإيجاد معادلة جديدة في الشرق الأوسط عنوانها «فسطاط الممانعة»، وأن الولي الفقيه في طهران هو صاحب القرار وصاحب العقد والحل في الإقليم كله. إن غزة تُذبح الآن وأنه ثبت ان لعبة الصواريخ كانت كذبة كبيرة لم يستفِد منها إلا الجنرالات الإسرائيليون الذين استخدموها مبرراً لحربهم هذه التي ستكون لها تبعات سياسية كثيرة على المنطقة كلها، بكل دولها، لهذا فإن التغني بالأندلس لن ينفع الفلسطينيين الذين تُمزق أجساد أطفالهم شظايا قذائف المدافع وصواريخ الطائرات، وأن البكاء والتحسر على برتقال يافا ليس هذا وقته، فالمطلوب هو قرار دولي يلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار ويلزمها بالقبول بقوات دولية لضمان ألّا تتكرر هذه الحرب، وضمان إطلاق عملية سلام فعلية تحقق هدف إقامة الدولة المستقلة المنشودة في غزة والضفة الغربية. * كاتب وسياسي أردني
مقالات
قليل من التواضع!
07-01-2009