نهاية عصر ذهبي
سيُـذكَر عام 2008 باعتباره عام تحول تاريخي للنظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي ورثناه من ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. ونحن الآن نعيش نهاية شكل معين من أشكال العولمة التي كانت مدفوعة إلى حد كبير بتوسع هائل للتدفقات المالية.يتعين علينا أن نتذكر أن الماضي شهد العديد من فصول العولمة المثيرة. ومثلها كمثل عهود العولمة السابقة، كانت فترة أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين تتسم بارتفاع وتيرة الإبداع والابتكار، وهو ما أنتج قدراً عظيماً من الثروة والرخاء اللذين انتشرا على نطاق واسع، حتى أن تحقيق حلم التغلب على الفقر العالمي بات في بدايات القرن الحادي والعشرين يبدو وكأنه أقرب إلى المنال من أي وقت مضى. ولكن يبدو أن حجم الإبداع والابتكار كان أعظم من قدرة بني الإنسان على استيعابه وهضمه.
كانت موجات العولمة السابقة تتسم أيضاً بنشاط خاص في واحد من قطاعات الاقتصاد. فكان التوسع الذي شهده القرن الثامن عشر مدفوعاً بالمكاسب الإنتاجية الضخمة التي حققها القطاع الزراعي، والتي أدت إلى تزايد القدرة الشرائية والاستهلاك الشخصي أثناء ما أطلق عليه «الثورة الصناعية الأولى». وأثناء النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان التوسع الذي شهده التصنيع، خصوصا في مجال الحديد والصلب، سبباً في انطلاق ثورة النقل، حيث كان المحرك البخاري والسفن البخارية ذات البدن الحديدي في مقدمة الركب.وعلى هذا فإن المؤرخين الاقتصاديين يؤكدون على تحولين هائلين في النشاط وتوظيف العمالة على مدى القرنين الماضيين: التحول من الزراعة إلى التصنيع في القرن التاسع عشر، والنقلة الجديدة بعيداً عن التصنيع «القديم» إلى الخدمات في القرن العشرين. وفي كل من الحالتين كانت ظروف التحول نحو نمط جديد من أنماط التنمية قد تهيأت بفعل أزمة هائلة.شهدت أربعينيات القرن التاسع عشر آخر مجاعة كبرى في المناطق الريفية التقليدية من أوروبا، وكان ذلك راجعاً إلى ضعف المحاصيل في أغلب أنحاء القارة. وكان قصور الزراعة كافياً لإحداث دورة هابطة كبرى تأثر بها الجميع. وحين انفرجت الأزمة تحول العديد من المزارعين إلى أنشطة أخرى، الأمر الذي أدى إلى ازدهار كبير في قطاع الأعمال التجارية الأساسية التي قامت عليها الثورة الصناعية الأولى.وكانت الأزمة الاقتصادية العظمى التي شهدتها ثلاثينيات القرن العشرين مماثلة لأزمة أربعينيات القرن التاسع عشر الزراعية في تأثيرها التحويلي على البنية الاقتصادية. ففي المدى القريب بدت الأزمة مدمرة، ولكن البطالة الواسعة النطاق في القطاعات الصناعية دفعت العمال إلى امتهان حِرَف جديدة، وأكدت على أهمية المهارات والتعليم، وهو الأساس الذي قام عليه اقتصاد الخدمات في أواخر القرن العشرين.في كل التحولات الاقتصادية لم تتوقف الأعمال القديمة، بل أصبحت ببساطة أكثر كفاءة. فرغم ضآلة عدد السكان الذين يمتهنون الزراعة في الولايات المتحدة، فإنها تظل تعمل كمنتِج ومُصَدِّر زراعي أساسي على مستوى العالم. على نحو مماثل، ورغم كل النقاش حول تضاؤل التصنيع وخسارة القدرة التنافسية النسبية منذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، فما تزال الولايات المتحدة تُـعَد المنطقة الصناعية الأضخم في العالم (ولو بالكاد).كانت الأزمة الائتمانية التي شهدها عام 2008 بمنزلة نقطة تحول لأنها كشفت عن نقاط ضعف خطيرة في القطاع المالي- المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي أثناء العقود الأخيرة. وفي البلدان الأكثر تطوراً على الصعيد المالي على وجه التحديد- الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وسويسرا- كانت العيوب التي شابت الإشراف المصرفي (سواء الإشراف الخارجي أو الإشراف على إدارة المجازفة داخل المؤسسات المالية) شديدة الوضوح. وفي المقابل كان الإشراف أفضل وأكثر إحكاماً في إيطاليا وإسبانيا اللتين تتمتعان بنظامين مصرفيين يتسمان بالديناميكية والنشاط، رغم النظرة الواسعة النطاق إلى الاقتصاد في البلدين باعتبارهما خاملين في الأساس. إن التكيف مع البيئة الجديدة سيتسنى وفقاً لواحد من سيناريوهين متناقضين. أولاً، السيناريو السيئ، والذي يتلخص في فرض المزيد من التنظيمات. ففي مواجهة المحنة الزراعية التي شهدها القرن التاسع عشر، نادى أصحاب النوايا الحسنة بفرض قدر أعظم من التنظيم على الأسعار الزراعية. وفي خضم الفوضى التي عمت أثناء ثلاثينيات القرن العشرين بدت عمليات الدمج القسري، وتكوين الاتحادات الاحتكارية، وإشراف الدولة كحلول حسنة.كان الحل الأفضل يكمن دوماً في التحول التكنولوجي. إذ إن استخدام تقنيات ومعدات جديدة كان يعني أن الأنشطة الزراعية والصناعية من الممكن أن تصبح أكثر إنتاجية، فتوظف بالتالي عدداً أقل من الناس، وتقلل من احتمالات تولد المخاطر المرتبطة بالاقتصاد الكلي.ومن المرجح أيضاً أن يكون في الإبداع الحل للمشاكل المصرفية على الأمد البعيد. وستستمر الوظائف التنظيمية والإشرافية في العمل- كما كانت الحال في أعقاب الأزمة الائتمانية- من خلال الاختبار المكثف للاستجابات المحتملة لمواقف افتراضية (فشل أحد الأطراف، أو حدوث اضطرابات جغرافية سياسية، وما إلى ذلك).إن القواعد الحسابية التي تخوِّل أو تمنع الصفقات التجارية من الممكن أن تعمل على معالجة تضارب المصالح. وعلى النحو نفسه، وبعد أن تحولت قاعات المضاربة الآن إلى شيء من الماضي، بات من الممكن أن تتولى الآلات أغلب الوظائف المصرفية. وستصبح الوساطة المالية على نحو متزايد وظيفة تقوم بها أنظمة برمجية تفاعلية.وكما كانت الحال أثناء التحولات الاقتصادية السابقة، فسيخرج إلينا العاملون في الصناعة المالية بحجج مقنعة حول اعتماد عملهم على اللمسة الإنسانية. وبالمثل، كان من المفترض في آلات الحصاد أن تؤدي إلى تدني نوعية الحبوب لأنها لم تعد خاضعة للتحقق الفوري بالعين البشرية. وفي بريطانيا ظل سائقو القطارات لمدة طويلة يصرون على أن ضمان السلامة يستلزم وجود سائقين، والآن أصبحت بعض أنظمة النقل الجماعي تُـسيِّر قطارات بلا سائقين. والآن تتولى الروبوتات أغلب العمل في مصانع السيارات المتقدمة. وبالمثل، لم يعد المصرفي الشخصي يشكل ضرورة، بل أصبح لا يشكل أكثر من رمز يدل على المكانة.من بين الإنجازات التي أسفر عنها تطبيق علم النفس على الاقتصاد أخيراً، كان إدراكنا لمدى التهور الذي قد تتسم به العديد من القرارات البشرية. وكثيراً ما كانت قصة أزمة الائتمان عبارة عن رواية معتادة من الأزمات المالية السابقة التي تسبب في إحداثها فرد مَـعيب أو مُـضارِب مارق. إن توظيف تكنولوجيا الحاسب الآلي من شأنه أن يقضي على الكثير من احتمالات الخطأ البشري والعيوب البشرية. ومع استمرار القطاع المالي في الاستغناء عن العاملين أثناء عام 2009، فقد يتبين لنا أن قطاع التمويل أصبح أفضل حالاً بعد تقليمه وتشذيبه.* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في كلية «وودرو ويلسون» بجامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»