قرأت «العمى» و«كلّ الأسماء» للأرجنتيني سرماغو الحائز جائزة نوبل في 1995، حين صدرتا بالترجمة العربية، ولم أقرأ الثالثة «سنة موت ريكاردوريس» لضعف الترجمة (الروايات صدرت عن دار المدى). أحببت «كلّ الأسماء» بفعل إيقاع نثرها، الذي يحفر مجرى بطيئاً باتجاه معنى العلاقة الملتبسة للكائن الإنساني بمصيره. الكائن الذي ينقطع عن الزمان المشترك، والمكان المشترك، والمصلحة المشتركة بينه وبين المحيط الإنساني الحي. ويصبح رقيباً مسؤولاً مسؤولية غامضة. «العمى» بالمقابل توحي بالحكاية أو الاستعارة الرمزية المباشرة Allegory. وعادة ما يكون الحدث في هذه الحكاية الرمزية مجرد بديل عن مفهوم. وكذلك الشخوص: هذا للخير وذاك للشر، وتلك للبراءة...الخ. قراءة «العمى» تغري القارئ في أن يتخذَ هذا السبيل في التأويل. وهو سبيل يجرد الرواية من الحياة. بالرغم من «العمى» تنطوي على عناصر حية لا تسمح بذلك تماماً.
رجلٌ يُصاب بعمى مفاجئ وهو في طريقه إلى البيت، عمى لا لعلّةٍ مرضية، معدٍ ولا شفاء منه، تصابُ زوجته، والطبيب المُعالج، وكلُّ من يتصل بهم، ثم يتكاثر المصابون، ويُحتجزون كالمجذومين في مُعتَزل كالمُعتقل، في المحنة يبدأ أحدهم لا يفكر إلا بنفسه، فتشتد المنافسات بشأن المكان، الطعام، النساء، والتسلّط، وسط الحطام والقذارة التي تفيض مع الأيام، إلى أن تنقطع المؤن، ويخرج الأسرى لنكتشف أن العمى اجتاح المدينة والبلدَ والعالم أجمع. شاهدتُ «العمى» هذا الأسبوع، وقد أصبح فيلماً، واستعدت ملاحظتي الأولى في القراءة، وحين خرجتُ وجدت مَن معي يتساءل عن معنى المدينة المختارة لهذا الحدث الرمزي، ومعنى الإصابة بالعمى الجماعي، ومعنى انفراد زوجة الطبيب وحدها بالرؤية، ومسعاها في توليف مجموعة تخرج من دائرة الأنانية الضاربة التي تصيب الجميع، وكنتُ أحاول أن أعيد صاحبي إلى براعة رجل الكاميرا في تصوير العتمة والضوء، وفي منح هاجس رؤيوي غائم، غارق في الضباب، يلائم ما في الرواية من تجريد، حتى لتبدو المشاهد رغم الألوان، بالأسود والأبيض، أو أُعيدُه إلى قدرات المخرج على توفير صورة للهلوسة الجماعية المُفزعة، ولمشاهد الخراب المريع الذي حلّ في شوارع، وأرصفة، ومحال المدينة، وإضفاء لمسات من الرقة على كلِّ هذا بين الحين والحين، في الحب بين الشابة التي كانت بغياً، والرجل المُسن. وفي الأغنية التي تنبعث فجأة من جهاز الراديو كالضوء الخفي في أروقة المأوى المعتمة، وكذلك في لمسات الدعابة أيضاً. المخرج في حوار معه يرى أن الناس، وقد ساوى بينهم العمى، يجب أن يُميتوا الأنانية في داخلهم ويباشروا العمل معا. ولكن على العكس نراهم في المأوى يحيلون الحياة إلى كابوس بفعل الأنانية، إلا صفوة منهم اهتدت إلى التعاون، وهي وحدها التي حققت حياةً أفضل. ولكنه في مكان آخر من الحوار يبتعد عن هذا التأويل الرمزي ليقول: «نحن دائما نتوهم أن حضارتنا شديدة التماسك، ولكن انتزعْ منها شيئا واحدا فقط ستجدها تنهار جملةً واحدة». وهي زاوية نظر يمكن أن تكون أساسية للتعامل مع الرواية كعمل فني حي، لا يخضع للتأويل الرمزي الرياضي. على أن البصر في الإنسان ليس شيئاً واحداً يسيراً. وفي المقابل أيضاً ان فاقدي البصر من البشر يملكون من قدراتهم البديلة ما يجعلهم متماسكين كفاية. هذا الأمر الذي انتبهت إليه «منظمة اتحاد العميان الوطنية» الأميركية فاحتجت بشدة، مُنكرة على الفيلم وعلى مخرجه أن يرى العميان هذه الرؤية السالبة الرثّة. لقد أحببت في الفيلم الرؤيا الكارثية، التي تنطوي على معنى ما ميتافيزيقي، أبعد من التأويل الرمزي. شيء يذكر بفيلم «القيامة الآن»، أو أي طراز كوني في الرؤيا. كما أحببت هذا التذكير الدائم بالرواية عن طريق استعانة المخرج بنصوص نثرية منها، وضعها على لسان راوِ دائم الحضور بصوته. لأن صوت الراوي لا يكتفي بمتابعة الحدث، بل يمنح لنا فرصاً للإصغاء لصوت المؤلف، للنثر المفكّر، المتأمل.
توابل - ثقافات
عمى سرَماغو على الشاشة
27-11-2008