نحو إطار فكري لمشروع المقاومة (1-2)

نشر في 13-01-2009
آخر تحديث 13-01-2009 | 00:00
 د. عمار علي حسن قادت التحديات التاريخية التي واجهت العالم الإسلامي في تاريخه المديد إلى إفراط الفقهاء في الحديث عن الجهاد بشتى درجاته، التي تبدأ بكبح شرور النفس وتنتهي عند التصدي للغزاة ومواجهة السلاطين الجائرين، لكنهم لم يعطوا اهتماماً كافياً لمفهوم «القوة الدافعة» الذي يتجلى واضحا في النص القرآني، محدد الملامح والمعالم، ويحمل من الشمول المادي والرمزي ما يوجب الالتفات إليه، والعناية به، والسعي في سبيل تجلية أصله وجوهره، وشرح جوانبه ودعائمه، والانطلاق منه لبناء رؤية تحوي كل ما يتصل به.

وينبع هذا المفهوم من الآيات الكريمة التي يقول فيها رب العزة سبحانه وتعالى:

«وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ» (البقرة: الآية 251)... «وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأرْضِ أقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأمُور» (الحج، الآيتان: 40- 41).

فهذه الآيات الكريمة تخبرنا في بساطة ووضوح أن الإصلاح في الأرض يتطلب وجود رأسين متناطحين، وجبهتين متواجهتين، تدفع كل منهما الأخرى، وتصدها وتردها، وتبين لنا أن في هذا الدفع فائدة كبيرة للإنسانية، وصوناً لها من الانهيار التام، الذي ينجم إما عن تجبر لا يُقاوم، وإما تخاذل لا يثير نخوة، وتؤكد في الوقت نفسه أن ممارسة الدفع ضد الظالمين والغزاة والمتجبرين هو نصرة لله تعالى، ورسالة الأنبياء التي تقوم على عبادة الله بالصلاة له، والاستخلاف في الأرض بإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد حفل التراث الإسلامي باهتمام قوي بهذه المسألة، نظرا لارتباطها بسنن كونية واجتماعية قدرها الله تعالى، ولتمثيلها إطارا يفسر الكثير من السلوكيات والتصرفات الفردية والجماعية، المحلية والدولية، فها هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يرى في هذه الآيات ما يعني دفع الله بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الكفار عن التابعين فمن بعدهم، ويزاوج أبو الدرداء بين الديني والسياسي في رؤيته وتفسيره فيقول: «لولا أن الله عز وجل يدفع بمن في المساجد عمن ليس في المساجد، وبمن يغزو عمن لا يغزو، لأتاهم العذاب». ويضفي عليها مجاهد طابعا قضائيا أو حقوقيا فيتحدث عن دفع الله ظلم قوم بشهادة العدول. وهناك من قال «لولا دفع الله العذاب بدعاء الفضلاء والأخيار». وتوجد قاعدة فقهية ذهبية تقول: «دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة».

ويرتبط هذا المفهوم بأمرين أساسيين متكاملين، أو بينهما وشائج وصلات ظاهرة، هما:

أولا: الدفاع: وهو وسيلة لحماية القيم النادرة ممن يستهدفها، ويقوم أساسا على قيام الدول والأحلاف بمقاومة الهجوم المادي الذي يشن من قوة خارجية، ويعتمد الدفاع أحيانا على الردع الذي يمنع الطرف الخارجي من القيام بالهجوم أصلا لأنه يدرك أن الكلفة ستكون باهظة، ورد الفعل سيكون ساحقا، وربط بعض علماء العلاقات الدولية بين ضرورة وجود الدفاع وتأصل نزعة الفوضى في النظام الدولي، وتحدثوا عن علاقة طردية بين الأمرين، فكلما زادت الفوضى اشتدت الحاجة إلى وجود نظام للدفاع لدى كل دولة.

وقد زاد ظهور الدولة بوصفها الطرف الفاعل المسيطر في العلاقات الدولية اعتبارا من القرن السابع عشر من أهمية الدفاع كأحد مهامها الحيوية، والقدرات الدفاعية ليست موزعة بالتساوي بين الدول، فبعضها قادر على الدفاع عن نفسه، وبعضها لا يستطيع، ويستشعر ضعفه في مواجهة الآخرين، ولذا عليها أن تبحث عن تحالفات ومعاهدات لحمايتها، أو تتوجه كلية نحو الحياد.

ثانيا: الدافعية: وهي تعني إنجاز أشياء صعبة، مادية أو معنوية، في أقصى سرعة واستقلالية، والتغلب على العقبات، والتفوق على الذات وتقديرها، ومنافسة الآخرين وتجاوزهم، ولهذا فإن الدافعية تبدو استعدادا نسبيا للشخصية، يحدد مدى سعي الفرد ومثابرته في سبيل بلوغ النجاح، ويترتب عليها نوع معين من الإشباع.

والدافعية قوة محركة منشطة وموجهة تدفع الفرد نحو سلوك في ظروف معينة وتوجهه نحو إشباع حاجة أو هدف محدد، وهي تعزز معرفة الإنسان بنفسه وغيره، وتدفعه إلى التصرف بما تقتضيه مختلف الظروف والمواقف، وتجعله أكثر قدرة على تفسير تصرفات الآخرين، والتنبؤ بسلوكهم.

ومن حيث المنشأ تتوزع الدوافع على نوعين: الأول فطري مثل الجوع والعطش والأمومة والجنس، والثاني مكتسب يستلهمه الإنسان من بيئته الاجتماعية، كالدافع إلى الإنجاز والتحصيل والسيطرة وحب الاستطلاع والانتماء، ومن زاوية التأثير فهناك دوافع تخلقها مصادر خارجية مثل المعلم والواعظ والرفاق، أو داخلية نابعة من الذات.

ويلتقي الدفاع بالدافعية في نقطة ارتكاز مهمة تنطوي على بحث الإنسان الدائب عن الأمن، باعتباره الحاجة الثانية له حسب سلم الغرائز الشهير لعالم النفس الأميركي ماسلو، بعد غريزة الحرص على الحياة، والحفاظ على الحياة يحتاج في جانب منه إلى امتلاك الفرد والجماعة قدرة على رد كيد المعتدين، سواء بردعهم عن الإقدام على الهجوم، أو بصدهم حين يهاجمون بالفعل، ولعل تعبير «الدفع» الذي ورد في القرآن الكريم يعبر عن هذا الوضع بدقة وجلاء، وهو ما يترسخ أكثر بالآية الكريمة التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى:

«وَأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ» (الأنفال، الآية: 160).

وفي المقال المقبل سنتناول الفلسفة العامة التي تحكم عملية المقاومة وأفكارها.

 

* كاتب وباحث مصري

back to top