بين العمائم واللحى!

نشر في 27-07-2008
آخر تحديث 27-07-2008 | 00:00
 صالح القلاب

بالتأكيد ان رادوفان كارادزيتش، لم يكن شجاعاً. لأن الشجاعة ليست في إرسال جنودٍ متعطشين للدماء ليذبحوا في عام 1995 ثمانية آلاف رجل وصبي وامرأة من مسلمي البوسنة في مجزرة سربرينيتشا التي اعتبرت من أبشع المجازر البشرية التي عرفها التاريخ.

مَن شاهد صورة سفاح البوسنة رادوفان كارادزيتش، وهو يهرب من صورته الحقيقية ويختفي وراء لحية طويلة أعطته هيئة قديس، مع أنه شيطان رجيم، ربما تذكر صورة صدام حسين وهو يـُخْرج من الجحر الحقير الذي كان يختبئ فيه مرتعد الفرائص، والفرق أن لحية صاحب «القادسية الجديدة» لم تكن مشذبة ولا مرتبة، وهذا ما دفع الجنود الأميركيين إلى التأكد مما إذا كانت تحوي أعشاشاً لـ«القمل» و«البراغيث» والحشرات المؤذية أم لا؟

رحم الله الحجاج، فهو الذي قال مخاطباً أهل العراق في ذلك الحين: وإنني والله لأنظر الى الدماء بين العمائم واللحى»... وعند العرب العاربة والمستعربة، فإن أكبر شتيمة هي أنْ يقول أحدهم لأحدهم: «والله لألْعن أبو لحيتك»، وكأن للِّحْيَة أباً غير أبي الشخص الذي يحملها؟!

وعلى ذكر الحجاج فقد جاء في الطرائف- التي قيلت بالتأكيد بعد مماته- أنه، أي الحجاج، خرج ذات مساء من مدينة واسط في جولة «ترويحية» وحوله جلاوزته وحراسه، وإذا به يرى مجموعة من الصِّبية يتوقفون عن مواصلة لعبهم ويفرون كما تفر العصافير التي خوى نحوها باشق على حين غرة، باستثناء واحدٍ بقي واقفا في مكانه، وهو ينظر إلى موكب الرجل، الذي طالما جندل «رؤوساً أينعت وحان قطافها»، بالكثير من التحدي والاستهزاء!

أمر الحجاج أحد فرسانه بأن يـُحضر الصبيِّ «الوقح» إليه، وعندما مثُل بين يديه سأله: «أنت ابن مَن يا غلام» ..؟! وكان جوابه: أنا ابن منْ انـْحنَتْ له الرقاب!

اعتدل الحجاج فوق سرج جواده وقال للصبي الذي لايزال يحتفظ بوقفة التحدي: إن الرقِّاب لا تنحني إلا لأمير المؤمنين أطال الله عمره. فابن مَن أنت يا غلام؟ لم يرتبك الصبي وقال بلهجة فيها الكثير من الثقة بالنفس والاعتداد بها: أنا ابن حجَّام واسط (والحجام هو الحلاق)... ضحك الحجاج حتى كاد يسقط من فوق ظهر حصانه... ثم أمر بأعطيةٍ لذلك الغلام الذي لم يكن شجاعاً في حقيقة الأمر، بل كان ذكيّاً ونابهاً.

بالتأكيد ان رادوفان كارادزيتش، الذي أصبح اسمه بعد ان اختفى وراء لحية القديس هروباً من شخصيته الشيطانية دراغان دابيتش، لم يكن شجاعاً. لأن الشجاعة ليست في إرسال جنودٍ متعطشين للدماء ليذبحوا في عام 1995 ثمانية آلاف رجل وصبي وامرأة من مسلمي البوسنة في مجزرة سربرينيتشا التي اعتبرت من أبشع المجازر البشرية التي عرفها التاريخ، وبالتأكيد ان هذا الصربي المتعصب ليس ذكيّاً، إذْ إنه لو كان يتمتع بالحد الأدنى من الذكاء لأدرك أن من أهم الحِكَمْ التي أفرزتها التجارب البشرية هي: «وبَشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حين».

لم يكن صدام حسين شجاعاً، لكنه بالتأكيد كان متهوراً. فالشجاعة لا تعني عدم الخوف ولا تعني عدم الاكتراث بالمخاطر والعواقب. فلقد أُقتيدت تلك المرأة الفرنسية الاسطورة جان دارك إلى منصة الإعدام، وهي ترتجف كَقَصَلةٍ في مهب الريح، لكن رغم خوفها من الموت، فإنها لم تطلب العفو من جلاديها ولم تستجدهم خوفاً على الدعوة النبيلة التي أقنعت بها أبناء شعبها لمقاومة الأعداء الذين يحتلون وطنهم! على فكرة... لم تُنشر حتى الآن صور اللحظة التي أُلقي القبض فيها على كارادزيتش، وهو يخفي حقيقته الشيطانية خلف لحية طويلة ولكنها مشذبة، وذلك خلافاً لما حدث مع صاحب شعار: «يا محلى النصر بعون الله»، وهو يخرج من تلك الحفرة الحقيرة ويرفع يديه عالياً للجنود الأميركيين، ويستسلم لهم باستمتاع، وهم يبحثون بين ثنايا لحيته المشعثة عن «القمل» و«البراغيث» والحشرات المؤذية!

* كاتب وسياسي أردني

back to top