المعارضة بين نقد الواقع ورفضه
نخفق غالبا في التمييز بين «السلطة» من وجه و«المسؤولية» من وجه آخر، نحسبهما أمرين رديفين أو متطابقين، مترتب أحدهما على الآخر، وفق نسق محكم غير عشوائي يسبّق «السلطة» على «المسؤولية»، فإذا هذه نتاج تلك، في حين أن حالهما ليست كذلك إلا في «ثقافة سياسية» كتلك الشائعة بيننا، يمثل انعدام الديمقراطية أبرز هناتها وأوكدها، فضلاً عن هنات سواها كثيرة.يتبدى ذلك على النحو الأوضح والأجلى، في سلوك معارضات المنطقة، أو سوادها الأعظم والغالب، ليس لطبيعةٍ في تلك المعارضات، أو لتقصير فيها جبلّي تستأثر به ويفوق ما هو قائم منه عند سواها، ولا سيما أنظمة الحكم التي تناهضها، بل لخصوصية موقعها الذي يجعل من ذلك الخلط بين «السلطة» و«المسؤولية»، وهي الطامحة إلى هذه وإلى تلك، بالغ النفور في ما يخصها وفي شأنها، خصوصا أنها تُمارس ذلك الخلط على نحو سلبي، إن جازت العبارة، إذ تحسب أن حرمانها من «السلطة» أو من المشاركة فيها، ناهيك عن بلوغها بواسطة التداول السلمي، في ظل ذلك الوضع الاستبدادي المعلوم، إنما يجعلها في حلّ من كل «مسؤولية».
وتلك «مسلّمة» تميل معارضات كثيرة إلى سحبها على مجمل تعاطيها مع الشأن العام، فهي إذ تناكف الحكام في سلطتهم، لا تكاد تعبأ بغير فعل المناكفة ذاك ولا ترى نفسها معنية إلا به، تهيئ له كل شيء أو ما استطاعت. لذلك، كثيرا ما نرى بين المطالبين بالديمقراطية وعتاة الذائدين عنها، شخصيات وتيارات رأي لم تحسم أمر انتمائها إلى الديمقراطية، مسلكا يُتوخى أو هدفا يُنشد، فإذا الشخصيات وتيارات الرأي تلك، بين آخذ بإيديولوجيات (دينية أو مدنية) تنافي المبدأ الديمقراطي أصلا وتنقضه، وبين متعلق بتجارب، شأن تلك التي جسدها الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين، تعلقا لا يتوقف عند رفض مظلمة الاحتلال، لا يرى مع ذلك غضاضة ولا تناقضا، في رفع مطلب الحرية في وجه سلطات بلاده، فإذا استخدام ذلك المبدأ لا ينشد غير الإحراج ولا يتعدى توسلا قوامه التذرع والتحجج، فلا يصدر عن «مسؤولية» حيال ذلك المبدأ ولا حيال إرسائه.ثم إن بعض المعارضات لا يتورع عن استثارة الحروب الأهلية أو عن التهديد بها، لأنه لايزال مأخوذا، ضمنا أو جهرا، بالعنف طريقا للتغيير. ربما عاد ذلك إلى أن «الثقافة السياسية» في هذه المنطقة، راكمت الحِقب دون أن تشفعها بالتجاوز، فإذا هي، عود على بدء مستدام، ثابتة، من حيث الوعي والأدوات «الفكرية»، عند لحظة «حركات التحرر» لا تبرحها ولا تتحرر من إسارها ولا تني تستعيدها. ربما كان سبب ذلك أن علاقتنا بدولنا تقوم على لبس أو على انفصام، فهي من ناحية واقع قائم، نعيش في كنفه وندين له بمظاهر الولاء طوعا أو إجبارا، نطبّق قوانينه أو أنها تسري علينا، ولكننا من وجه آخر، وفي الغالب أو في العمق، نضنّ عليها بالشرعية، نراها نتاج «هندسة» استعمارية، مجرد «أمر واقع» يستوي دون وجه حق، وبفعل ما يشبه العملية القيصرية، بين مرتبتين تعتبران طبيعيتين: بين الانتماء إلى «أمة»، عربية أو إسلامية، عابرة للأوطان وللكيانات متخطية لها، تقع في ما فوق الدولة، وبين هيئات عضوية، إثنية أو طائفية أو عشائرية أو ما شاكلها، تقع دون الدولة وتمثل الرحم الأمثل للفرد. لكل ذلك، يضمر ويتضاءل الفارق، حتى بلوغ مبلغ التلاشي، بين نقد الواقع، على ما هو وظيفة المعارضة، وبين رفضه المبرم، على ما هو شرط كل ثورة، والحال أن معارضات المنطقة، لم تُقِم، في غالبها، فارقا بين فعل المعارضة وبين تجليه الأقصى والاستثنائي ممثلا بالثورة، بين الإقبال على الواقع معطى، يُقبل على أن يصار إلى الفعل فيه تحسينا وتغييرا، على أساس من قاعدة ما، قوامها مصالحةٌ، قائمة أو منشودة، يُعمل من أجل إرسائها، وبين رفض ذلك الواقع جملة وتفصيلا وإدارة الظهر له، وإنكاره إنكارا لا يفضي، من حيث منطقه ذاته، إلا إلى الثورة عليه.ولعل ذلك هو اللبس الأساسي الذي تكابده معارضات المنطقة، والذي قد يكون عامل حدّ أكيد من فاعليتها، ذلك المتمثل في عدم قدرتها على التمييز بين المعارضة والثورة، بين تحديدها لوظيفة كل منهما، أداة لتلك أم لهذه.وفي ذلك ما قد يدعو إلى نقد المعارضة بقدر ما يتعين نقد الأنظمة، أما هذا الأخير فمعهود، جار على قدم وساق، مسموح به ما استمر غير محدد وغير عيْنيّ، شأن الغمز من قناة «الأنظمة العربية»، هكذا تعميما من دون تعيين. وأما ذاك، فقليل أو لا يتولاه إلا رجال السلطة على نحو قد يجعله يلوح مغرضا، في حين أنه بالغ الأهمية.مدخل النقد ذاك هو السعي إلى الفصل بين مبدأ «المسؤولية» ومبدأ «السلطة»، واعتبار المعارضة ناهضة بالمسؤولية، أو ببعض أوجهها، وإن لم تكن في الحكم، حيال قضايا أساسية بعينها، أولها مسألة «السيادة»، على ما سنحاول أن نبين في مناسبة مقبلة.* كاتب تونسي