كان مطروحاً كخيار ثانٍ في حالة عدم توقيع المعاهدة، العودة إلى خيار الفصل السابع بتمديد قرارات مجلس الأمن، وكان هذا محطّ جدل فقهي قانوني وسياسي، فلماذا يخضع العراق كدولة للفصل السابع حالياً، بعد أن تمت الإطاحة بالنظام السابق، المتهم بخرق السلم والأمن الدوليين وتهديده لهما، ولدول الجوار، لاسيما بعدم وجود أسلحة دمار شامل أو أي علاقة بتنظيم القاعدة وبالإرهاب الدولي؟ وهو ما انكشف زيفه باعتراف أميركي ودولي، ولم يعد العراق مصدر تهديد لجيرانه ولا للسلم والأمن الدوليين.

Ad

وبعد كل ذلك لماذا إذن سيبقى العراق خاضعاً لسوط الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات؟ علماً بأنه تم «حل» الدولة العراقية ومؤسساتها، وتنصيب حاكم مدني أميركي على العراق، حيث حكم بول بريمر منذ مايو 2003 ولغاية يونيو 2004، وهذا يعني إن صلاحيات الدولة حسب اتفاقيات جنيف انتقلت للقوات المحتلة، التي ستكون خاضعة للفصل السابع حسب المنطق، وليس بقايا الدولة العراقية المنحلّة. وأياً تكن المبررات والأسباب لإعادة العراق إلى الفصل السابع حسبما تم تثبيته في القرارات الدولية، لاسيما القرار 1546 «2004» والقرار 1770 «2007»، فإن الطلب بعدم تمديد القرارات من مجلس الأمن إنهاء تبعة القرارات على العراق.

وإذا كان هناك من يجادل بأن بعض المظاهر السيادية قد عادت إلى الدولة العراقية، التي أخذت تمارس صلاحياتها، لاسيما بإجراء انتخابات وسن دستور دائم للبلاد باستفتاء شعبي، فإن الأمر لا يلغي مسؤولية قوات الاحتلال (القوات المتعددة الجنسية) حسب قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني لحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.

وكان عدم توقيع المعاهدة سيجبر الحكومة العراقية على الطلب من مجلس الأمن تمديد بقاء القوات المتعددة الجنسية، التي ستنتهي مهماتها في 31 ديسمبر 2008، ومثل هذا التمديد لا يكون لأكثر من 6 أشهر أو حتى لعام واحد، وهو تمديد لاستمرار الامتثال للفصل السابع، وإنْ بعدم وجود تهديد، وهو يعني العودة مجدداً إلى طاولة المفاوضات حول مصير القوات الأميركية في العراق، ويتكرر الأمر إذا لم توجد خطة وطنية عراقية بديلة.

ولعل الوفد المفاوض الأميركي كان حاسماً عندما صرّح بأن صبر واشنطن قد نفد، وكان واضحاً عندما قال: إنه غير مستعد لإجراء أي تعديلات بعد نقاشات طويلة للوصول إلى الاتفاق الذي يتضمن ثلاثة أقسام: الأول هو رسالة مقترحة من الرئيس بوش إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، والثاني اتفاق الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة بين البلدين تضمن تعهد واشنطن للدفاع عن العراق ضد الأخطار الداخلية والخارجية، أما القسم الثالث فهو الذي يتعلق بالوجود العسكري للقوات الأميركية ونشاطاتها والفترة الزمنية المقترحة لانسحابها كما هو مطروح في نهاية العام 2011، إضافة إلى الولاية القضائية على جنودها والمتعاقدين معها، وهذه كانت مصدر خلاف وستبقى لاحقاً لأنها ستثير إشكالات جدية واحتكاكات كثيرة، إضافة إلى دخول وخروج القوات الأميركية من العراق وحركتها والضرائب والخدمات والاستيراد والتصدير وغيرها.

أيا كانت التبريرات والتحذيرات، ناهيكم عن التقديرات، فالمعاهدة حسب قواعد القانون الدولي واتفاقية فيينا لعام 1969 حول «قانون المعاهدات» ستكون غير متكافئة، لاسيما بوجود عنصر الإكراه فيها الذي يعدّ أحد عيوب الرضا الطوعية الأساسية التي تفتقر إليها المعاهدة.

وكانت تلك التبريرات أو التحذيرات لا تنصبّ على رفض المعاهدة أو عدم التوقيع عليها، بل على تحسين شروط التفاوض لكل طرف لاعتبارات داخلية وخارجية، أما الجوهر الأساسي للاتفاقية لاسيما ضرورتها والحاجة إليها، فهي ليست موضوع نقاش لا من جانب الحكومة العراقية ولا من جانب الإدارة الأميركية، فكلا الطرفين يقرّ بذلك، وهو الأمر الذي استقر لاحقاً بالتوقيع عليها.

يبقى هناك من يقول هل التبرير أو التحذير سيكون بديلاً عن الواقع، لاسيما وصول واشنطن إلى طريق مسدود، وكذلك الترتيبات التي اتخذتها طيلة السنوات الخمس ونيّف الماضية؟ هذا ما يمكن أن تجيب عنه الإدارة الجديدة، خصوصاً بفوز الديمقراطيين على الجمهوريين ووصول أوباما إلى سدة الرئاسة، وهو ما ستقرره الأسابيع القليلة القادمة حين يتربع الزعيم الأسود على دست البيت الأبيض!!

وهناك أسئلة ملّحة وراهنة فبعد فوز أوباما رئيساً للولايات المتحدة (الرقم 44)، كيف سيتصرف بشأن الملف العراقي، لاسيما استمرار الماراثون بشأن الاتفاقية العراقية-الأميركية؟ وهي إن تم التوقيع عليها لكن التحفظات والاعتراضات لاتزال باقية بل تتزايد على نصوصها وأهدافها، خصوصاً بعد الاطلاع عليها، حيث مضت الساعات سريعة مثقلة باتجاه لحظة الحسم الأخيرة التي طال انتظارها حتى وقّع الزيباري وكروكر على الاتفاقية.

وكانت الولايات المتحدة من جهتها حسب وزير الخارجية العراقي هوشيار الزيباري قد هددت بوقف المساعدات والتسهيلات الأميركية للحكومة العراقية بما فيها الحمائية والعسكرية والسياسية، إذا لم توقع الحكومة العراقية على الاتفاقية قبل 31 ديسمبر 2008، وكانت ستضطر إلى سحب جنودها من العراق في حال عدم توقيع الاتفاقية، إذ لا يمكنها إبقاؤهم دون غطاء قانوني، إلاّ إذا تم تمديد القرار 1546 الصادر في 8 يونيو العام 2004 والقرارات الأخرى ذات الصلة بما فيها القرار 1770 عام 2007، لفترة قادمة، وإلاّ فإنها ستعرّضهم والمتعاقدين معها إلى إشكالات ومساءلات قانونية، طالما لا يوجد اتفاق ينظم استمرارهم وحركتهم وعلاقتهم بالسلطات المحلية، سواء كان اتفاقاً دولياً (قرار جديد من مجلس الأمن) وهو أمر كان مستبعداً أو تمديد القرار الحالي لسنة أخرى أو لستة أشهر مثلاً، أو اتفاقية مع الحكومة العراقية، وهو ما ترغب به واشنطن وما تحقق فعلياً، لأنه سيؤهلها لتقنين احتلالها العسكري وتحويله إلى احتلال تعاقدي، وفق معاهدة سياسية وأمنية وعسكرية شاملة.

لعل المركز الدولي للفريقين المتعاقدين مختلف تماماً، فالولايات المتحدة التي غامرت وقادت غزواً لاحتلال العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل وعلاقة النظام السابق بتنظيم القاعدة والإرهاب الدولي، ومن ثم دعوتها لنموذج ديمقراطي أرادته أن يعمّ المنطقة، فشلت فشلاً ذريعاً رغم نجاحها العسكري الحاسم بالإطاحة بالنظام السابق، لكن مشروعها الإمبراطوري في الشرق الأوسط، يتوقف الآن على «البقاء « في العراق أو الانسحاب منه! ورغم تباين وجهات النظر بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن الحرب والانسحاب، فإنهما يتفقان على ضرورة عدم هزيمة الولايات المتحدة.

ولهذا فقد سعت واشنطن إلى أن تفعل كل ما في وسعها لإرغام الحكومة العراقية على التوقيع على الاتفاقية، وعكس ذلك فقد كانت ستضطر إلى الرحيل ومعها ستتهاوى خطتها الاستراتيجية، وإن لم يكن ذلك خياراً راجحاً وقتها، ولذلك كانت حازمة إلى درجة التهديد، وهذا يعني في لغة السياسة استعدادها لتغيير الطاقم «الحاكم» في العراق، بإحداث تصدعات داخلية، من شأنها الإتيان لاحقاً بفريق يرضخ سلفاً للتوقيع على الاتفاقية كما تريد وترغب، وما استقبال الرئيس بوش رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني في البيت الأبيض سوى إشارة واضحة إلى إمكان إيجاد كتل وتجمعات، وقسم منها جاهز بالأساس لتأييد التوقيع على الاتفاقية، حيث أبدى الزعيم الكردي استعداده لقبول وجود قواعد عسكرية أميركية فيما إذا طلبت الولايات المتحدة ذلك، لاسيما إذا لم توقّع الاتفاقية، ولعل هناك من يبرر أيضاً بأن الهدف من ذلك هو التصدي للخطر الإيراني أو إضعاف جماعة طهران، حيث يمكن أن يلتقي تحت هذا العنوان فرقاء كثيرون وإن اختلفوا حول كل شيء إلاّ أنهم يتفقون على خطر النفوذ الإيراني.

وإذا كان مثل هذا الأمر كلام حق في الظاهر، فإن جوهره يراد به باطل، حيث تسعى واشنطن بالأساس إلى نقل صيغة الاحتلال العسكري التي مضى عليها خمس سنوات وثمانية أشهر، إلى احتلال تعاهدي طويل الأمد وبصيغة قانونية وسياسية، وهو ما تضمنته رسالة الرئيس الأميركي بوش إلى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.

* باحث ومفكر عربي