الطعام... في شهر الصيام (1) الكنافة لمعاوية بن أبي سفيان... والقطائف لسليمان بن عبد الملك! قمر الدين... مدينة بالشام اشتهرت بزراعة المشمش ومنحت اسمها لأشهر مشروب رمضاني

نشر في 01-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 01-09-2008 | 00:00
عندما تمر على بائع، وقد كتب «قمر الدين» على حلوى المشمش المعروفة، قل له إن يكتبها بالهمزة «أمر الدين» فهو أصح، واعلم أنه لولا فريضة الصيام في رمضان لما عرف الناس هذه الحلوى، ولما عرفوا «الكنافة» ولا «القطائف».

أول يوم صامه المسلمون هو الأحد غرة رمضان عام 2 هـ الموافق 26 من فبراير (شباط) 624م، وكان الصيام قد فرض في شعبان من العام نفسه، إيذاناً بانتقال الإسلام من مرحلة «الدعوة» في مكة إلى مرحلة «الدولة» في المدينة، أما ما ابتكره المسلمون لرمضان من أطعمة ومشروبات، وما عرفوه من نظم وعادات، فكان من علامات ميلاد «الحضارة» الإسلامية، بعد أن فتح المسلمون مراكز الحضارات القديمة في اليمن والعراق ومصر، وفي الشام حيث استقرت عاصمة الدولة ألف شهر ـ أكثر من 88 سنة ـ في «دمشق» منطلق الفتوحات من الصين إلى الأندلس، والمدينة التي شهدت موائد قصورها أول ما عرف العالم من أطعمة رمضانية، قبل أن تتولى «بغداد» ثم «القاهرة» مهمة ابتكار وتطوير ما ارتبط بشهر الصيام من فنون.

شهية مفتوحة

يتفق المؤرخون على انتماء الكنافة والقطايف إلى الشام، وعلى أنهما قدمتا ـ أول ما قدمتا ـ داخل قصر الحكم، ثم يختلفون في تحديد اسم ومرتبة الحاكم الذي استمتع بأول طبق من خيوط الكنافة الذهبية وكرات القطايف المحشوة بالفواكه المجففة، بعضهم يقول إنه «معاوية بن أبي سفيان»، وبعضهم يقول «سليمان بن عبد الملك»، والصحيح ما قاله «ابن فضل الله» من أن أول من اتخذ الكنافة من العرب معاوية بن أبي سفيان زمن ولايته الشام في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت تقدم له في السحور, فمعاوية اشتهر بشهيته المفتوحة، أو بأنه «كان من الأكلة المشهورين» كما يقول «ابن فضل الله» فشكا إلى طبيبه «محمد بن أثال» ما يلقاه من الجوع في صيامه، فوصف له الكنافة، وكان ذلك عام 35 هـ (641 ميلادية).

أما القطايف فإن طهاة حلب قدموها للخليفة «سليمان بن عبد الملك» في خلافته التي بدأت عام 96 هـ (712 م )، كما يقول المؤرخ «إبراهيم عناني».

والطريف أن «سليمان بن عبد الملك» كان هو أيضاً من «الأكلة المشهورين»، بل لعله أشهر من تروى عن شهيته حكايات أشبه بالأساطير، قال «ابن خلكان» في ترجمته: إنه كان يأكل في كل يوم نحو مائة رطل شامي، وذكر ابن قتيبة الدينوري في «عيون الأخبار» وابن عبد ربه في «العقد الفريد» وأبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني»، عن رجل يدعى «الشمردل» كان وكيلاً لآل «عمرو بن العاص»، قال: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وابنه أيوب وعمر بن عبد العزيز بستاناً لعمرو، ثم قال: ويلك يا شمردل، أما عندك شيء تطعمني؟ قلت: بلى والله، إن عندي جدياً تغدو عليه بقرة وتروح أخرى, قال: اعجل به, فأتيته به كأنه عُكَّة (العكة: قربة سمن صغيرة) وتشمر فأكل ولم يدع ابنه ولا عمر حتى أبقى فخذاً، وهنا دعا «عمر» الذي اعتذر بأنه صائم, ثم قال ويلك يا شمردل، أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله، دجاجات ست كأنهن رئلان (أي صغار) النعام، فأتيته بهن, فكان يأخذ رجل الدجاجة حتى يعرى عظمها ثم يلقيها حتى أتى عليهن. ثم قال: ويلك، أما عندك شيء؟ فقلت: بلى والله، إن عندي لحريرة (دقيق يطبخ بلبن) كقراضة الذهب, فقال: اعجل بها, فأتيته بعس (العس: القدح الكبير) يغيب فيه الرأس، فجعل يتلقمها (يأكلها بسرعة) بيده ويشرب، فلما فرغ قال: يا غلام، أفرغت من غدائنا؟ قال: نعم، قال: وما هو؟ قال: نيف وثمانون قدراً, قال فأتني بها قدراً قدراً، فأتاه بها وبقناع (إناء من خوص النخيل) عليه رقاق, فأكثر ما أكل من كل قدر ثلاث لقم، وأقل ما أكل لقمة، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، وأذن للناس (في الدخول) ووضع الطعام، فجعل يأكل مع الناس، فوالله ما أنكرت من أكله شيئاً. أي أن «سليمان بن عبد الملك» أكل مع الناس كأي واحد منهم بعد كل ما ألقى في بطنه من طعام! ومع التسليم بما تنطوي عليه الحكاية من مبالغة بعيدة عن التصديق، فإنها تشير إلى رجل محب للطعام لا يمكنه الصبر على الجوع، والظاهر أنه لم يكن يطيق أن يبقى بلا طعام في ليالي رمضان الطويلة التي يقضيها في مجلس الحكم، ولهذا ابتكروا من أجله «القطايف» وهي لقم من عجين محشو، يمكن للخليفة أن يتناولها وهو في مجلس خلافته، من غير أن تنتقص هيبته، أو يختل نظام المجلس.

أما أول من تناول مشروب «أمر الدين» فهو الخليفة «عبد الملك بن مروان» ـ بويع بالخلافة سنة 65هـ ، وتوفي سنة 86هـ ـ وترجع التسمية إلي مدينة «أمر الدين» بالشام، التي اشتهرت بزراعة المشمش. ثم حور الناس الاسم إلى «قمر الدين» جهلاً بسبب التسمية، واعتقاداً أن العوام قلبوا القاف همزة، حسب اللهجة الدارجة حتى اليوم في كثير من مناطق مصر والشام، وزعموا أن التسمية ترجع إلى شخص يدعى «قمر الدين» كان يزرع المشمش، وأراد تخزينه ليصنع منه مشروباً في رمضان، فجففه على النحو المعروف، وصنع أول لفافة من لفافات «أمر الدين». وقد أعجب «عبد الملك بن مروان بطعمه» وأمر بتقديمه للناس في رمضان، ومن هنا اكتسب شهرته، وارتبط بالشهر الكريم.

وعبد الملك أطول خلفاء بني أمية مدة، دامت خلافته 21 سنة، وهو أول من عرَّب الدواوين، وأول من سك عملة خاصة بالدولة الإسلامية، إذ ضرب دراهم ودنانير على وجه منها كلمة التوحيد وعلى الوجه الآخر ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون حتى عهده يتعاملون بالدراهم والدنانير التي تسك في بلاد الروم، كما كانوا يتعاملون بالدراهم الكسروية ـ نسبة إلى كسرى ملك الفرس ـ وكان نقشها عبارة بالفارسية هي «نوش خور» أي «كل هنيئاً» كما يقول «كمال الدين بن محمد الدميري» في كتابه «حياة الحيوان الكبرى».

ولائم... وسكر بالقناطير

على عادة الأمم في الاحتفال بأعيادها ومواسمها بأنواع الطعام ـ خاصة الحلوى ـ واصل المسلمون ابتكار وتطوير أصناف مائدتهم في شهر رمضان، مراعاة لما يلائم حالة الصائم، ويشبع شهيته المفتوحة. فقد كان «هارون الرشيد» يقيم الولائم في قصره وفي الحدائق العامة، وكان يحب مشاهدة هذه الولائم متنكرًا. وكان لـ«أحمد بن طولون» ـ مؤسس الدولة الطولونية بمصر ـ حديقة إلى جوار مسجده، وتحت أشجار هذه الحديقة كان ابنه ـ وخليفته فيما بعد ـ «خمارويه» يقيم مآدب الإفطار والسحور للناس في شهر رمضان، كما أسس مدرسة لتعليم الطهاة ذاعت شهرتها، حتى تسابق الملوك في طلب الطباخين المتعلمين فيها مقابل أجور عالية.

أما الخلفاء الفاطميون فهم أكثر من احتفل برمضان، ومن ذلك أنهم أنشأوا ما سمي «دار الفطرة»، وكان من مهامها في الأيام الأولى من الشهر أن تقدم للناس الهدايا من الفطائر والسكر والحلوى. وكان سوق «الحلاويين» في القاهرة الفاطمية «من أبهج الأسواق ومن أحسن الأشياء منظرًا؛ حيث كان يصنع فيه من السكر أشكال خيول وسباع وغيرها تسمى العلاليق» كما يقول المؤرخ «إبراهيم عناني»، وقد انتقلت هذه «العلاليق» فيما بعد من رمضان لتصبح مظهراً من مظاهر الاحتفال بذكرى المولد النبوي، حيث تصنع عرائس الحلوى وخيولها، كما تصنع أشكال أخرى من «السكر المعقود» منها: السفن والديوك والإبل والأسود.

ومن الطرائف أن الخليفة الفاطمي «العزيز بالله» بعث رسائل بالحمام الزاجل إلى أمير دمشق؛ يطلب منه قراصيا بعلبكية، فعاد الحمام إلى الخليفة وفي إبط كل واحدة منه حبة قراصيا!

وحافظ سلاطين المماليك على مظاهر الاحتفال برمضان، ومن ذلك ما نقرؤه عن احتفال ليلة رؤية الهلال في عام 920هـ، على عهد السلطان المملوكي قبل الأخير «الأشرف قانصوه الغوري»، حيث حضر قضاة المذاهب الأربعة بالمدرسة المنصورية، وحضر الزيني بركات بن موسى ـ المحتسب الذي صاغ «جمال الغيطاني» سيرته في رواية معروفة تحمل اسمه ـ فلما ثبتت رؤية الهلال وأنفض المجلس ركب المحتسب ومشى أمامه السقاءون بالقِرَب وأوقدوا الشموع على الدكاكين وعلقوا المواقد والقناديل على طول الطريق إلى بيت المحتسب.

واعتاد «السلطان برقوق» ـ 784هـ :801هـ ـ أن يذبح في كل يوم من أيام رمضان خمساً وعشرين بقرة يتصدق بلحومها، مع ما يلزم من خبز وطعام على أهل المساجد والخوانق (جمع «خانقاه» وهي أماكن ينقطع فيها المتصوفة للعبادة) والروابط والسجون؛ بحيث يخص كلَّ فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة، وسار على سنته من أتى بعده من السلاطين، فأكثروا من ذبح الأبقار وتوزيع لحومها، كما رتب السلطان «الظاهر بيبرس» طعاماً يكفي خمسة آلاف في كل يوم من أيام رمضان.

وكان سلاطين المماليك يغدقون على الحاشية ورجال الدين في رمضان، وبشكل خاص كانوا يزيدون ما يصرف لهم من السكر، وفي عصر السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» بلغت كمية السكر التي صرفت لهم سنة 745هـ ثلاثة آلاف قنطار، قيمتها ثلاثون ألف دينار منها ستون قنطاراً في كل يوم من أيام رمضان، أي أن أكثر من نصفها (1800 قنطار) كان في رمضان وحده.

back to top