في مواجهة استغلال الحريات العامة!
لأول مرة منذ تسلَّم المسؤولية خلفاً لوالده الراحل قبل أكثر من ثمانية أعوام يتحدث العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بن الحسين، في مقابلة بثَّتها وكالة الأنباء الأردنية «بترا» مساء الثلاثاء الماضي وتناقلتها وسائل الإعلام، بصراحة غير مسبوقة وبالتفاصيل الدقيقة حول كل شيء في الأردن؛ الاقتصاد والسياسة، والاستثمار، والإعلام، والشائعات والتشكيك، والفنون، والعلاقات العربية. ولأول مرة يوجه انتقادات مباشرة إلى فئات ومجموعات دأبت على التوتير وعلى «فبركة» ما يربك الأردنيين من حكايات وقصص واتهامات لا أساس لها على أرض الواقع. كان آخر ما صدر عن طابور المشككين و«مفبركي» الروايات المثيرة مذكرة وقعها نحو سبعين من متقاعدي الوظائف الرسمية العليا ومتقاعدي الحياة السياسية والحزبية، على رأسهم المحامي أحمد عبيدات الذي تنقل في مواقع المسؤولية من مدير للمخابرات العامة، الجهاز الذي هو أهم أجهزة الدولة، إلى وزير للداخلية إلى رئيس للوزراء إلى رئاسة لجنة صياغة الميثاق الوطني إلى عضوية مجلس الأعيان، الذي يوصف في الأردن بأنه مجلس الملك، إلى رئاسة المركز الوطني لحقوق الإنسان، وفوق هذا كله المشاركة دائماً في الأنشطة كلها المتعلقة برسم الاستراتيجيات الأساسية للدولة في الحقول والمجالات كافة.
وقبل هذا، أي قبل هذه «المذكرة» المشار إليها التي استُغلت استغلالاً بشعاً من قبل القوى، التي أجسادها في الأردن وعقولها وقلوبها في الخارج، تعرض الأردنيون لحملة تحريض غير مسبوقة على الدولة والمؤسسات والحكومة وعلى كل شيء، وقد استغل المحرضون، الذين استباحوا صفحات بعض الصحف اليومية والأسبوعية، الظروف الصعبة التي تواجهها أغلبية الشعب الأردني بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة وبسبب ارتفاع سعر النفط وأسعار المواد الغذائية. تشكيك بلا حدود وبلا ضوابط لم يوفر أحداً وشائعات صوّرت الأردن وكأنه كله بات سلعة للبيع على أرصفة الشوارع الإقليمية والدولية، وهنا فإن المؤذي فعلاً أن القوى التي وقفت وراء هذه الشائعات ووراء حملات التشكيك هذه، وفي مقدمتها «الإخوان المسلمون» وحزبهم حزب «جبهة العمل الإسلامي» وبعض التنظيمات الهامشية التي فرَّختها بعض الفصائل الفلسطينية وبعض الأحزاب التابعة لبقية ما تبقى من أنظمة الانقلابات العسكرية، قد استغلت مساحات الحرية استغلالاً بشعاً مما أساء إلى «الديمقراطية» الأردنية وحوّلها في عيون الأردنيين، قبل غيرهم، إلى ميوعة سياسية على غرار ما حدث في نحو منتصف خمسينيات القرن الماضي، وكانت نتائجه وخيمة ومكلفة. المعروف أن الراحل الملك حسين، رحمه الله، قد بادر، بعد عودته من الدراسة في بريطانيا ليتسلم مسؤولية الحكم، إلى الانتقال بالأردن من واقع مجرد «البحبوحة» السياسية إلى واقع الديمقراطية والحريات العامة بالمقاسات الغربية، وهكذا فقد انتقلت الأحزاب كلها حتى بما في ذلك الحزب الشيوعي، الذي كان يعتبر مادة محرمة في دول المنطقة كلها، حتى بما في ذلك مصر وسورية، من تحت الأرض إلى فوقها، وأصبح لكل حزب صحيفته، وأصبح إصدار الصحف لا يحتاج إلا لمجرد علم وخبر، وتحول الشارع الأردني إلى خلية نحل سياسية وإلى ميدانٍ للصراعات والمواجهات المتأثرة بوضع تلك الفترة التي كانت قد وصلت فيها الحرب الباردة إلى ذروتها. وقتها حصل مثل هذا الذي يجري في الأردن الآن، ولكن بوسائل مختلفة. فالأحزاب، التي هي بالأساس انقلابية وشمولية ومرتبطة -إن لم يكن كلها فأغلبها- بالخارج لم تحافظ على النعمة التي توفرت لها، وهي متأثرة بظاهرة الانقلابات التي طغت على الواقع العربي كله، قد نقلت أنشطتها وصراعاتها إلى معسكرات الجيش وثكناته، وهكذا فقط أصبح همّ الضباط والعسكريين ليس الحفاظ على الوطن وأمنه واستقراره، وإنما الوصول إلى سدة الحكم على الطريقة السورية والمصرية وعلى الطريقة «الأتاتوركية» حيث كان مصطفى كمال «أتاتورك»، هو أول صاحب انقلاب عسكري في هذه المنطقة، وهذا ما جعل الحفاظ على الدولة والكيان أهم من التمسك بتلك الديمقراطية. ربما لا تكون الأمور في الأردن قد اقتربت، على هذا الجانب، من وضعية منتصف خمسينيات القرن الماضي، فجيش اليوم هو غير جيش الأمس وضباطه هم غير أولئك الضباط الذين جاءوا بالأحزاب إلى ثكناتهم العسكرية. لكن -وتلك حقيقة- في ضوء إصرار بعض القوى والتنظيمات الشمولية، أصلاً، على استغلال المساحات الواسعة للحريات العامة لزعزعة أمن البلاد واستقرارها بينما أوضاع الإقليم كله هي تلك الأوضاع المرعبة والخطيرة الراهنة، هناك مخاوف جدية من أن تُواجَه المسيرة الديمقراطية المتصاعدة منذ عام 1989 بانتكاسة شبيهة بانتكاسة عام 1957!* كاتب وسياسي أردني