أثمة فرق بين المنفى والعمى؟! أليس في قلب العدالة المعصوبة العينين من حرقة قلبي ما يجعلها تفك العصابة عن عينيها، وتهوي بميزانها على رؤوس عميان القلوب والضمائر من المحامين «الخارجين على القانون» أولئك الذين تطوّعوا للدفاع عن طاغية أعمى أطفأ بظلمه بصر البلاد وأهلها؟!

Ad

في منتصف الستينيات من القرن الفائت، عندما كان الكاتب «ألبرتو مانغويل» يافعاً يعمل بعد المدرسة في إحدى مكتبات بوينس آيرس، التقى، لأول مرّة، بالكاتب الأرجنتيني الشهير «بورخيس» عند زيارته للمكتبة برفقة والدته المسنّة، حيث كان في تلك الفترة يقترب من العمى التام.

ويتذكر مانغويل أن بورخيس كان يطلب الكتب، وبِنَهم القارئ القديم المدمن يقرّب صفحاتها من عيْنيه حتى تلاصق أنفه، كما لو أنه يريد أن يتنفّس الحروف التي لم يعد قادراً على رؤيتها!

ويقول إنه، في فترة لاحقة عندما فقد بصره تماما، سأله عمّا إذا كان يملك وقت فراغ في المساء يمكنه خلاله أن يزوره ليقرأ له، لأنّ والدته المسنة قد بلغت الغاية من التعب.

وقد أبدى مانغويل موافقته، دون أن يدرك في ذلك الوقت، عظم الامتياز الذي خصه به ذلك الكاتب الكبير.

وخلال تلك العلاقة كان مانغويل، في كثير من الأحيان، يرافق بورخيس الى دور السينما، ليروي له أحداث الأفلام، وسط تأفف وغضب المتفرجين الآخرين الذين كان يزعجهم صوت الرّاوي الشاب وهو يقطع عليهم متعة المشاهدة، خاصة أن بورخيس لم يكن ليقنع بوصف الأحداث والصور، بل كان يطلب من مانغويل أن يضيف إليها من عنده ما يعزز الوصف، كان يصف مشاعر الشخصيات، وزوايا الصور، من قبيل: «إنّه يبدو متوعّداً جداًَ من طريقة دخوله الغرفة، أو أن الكاميرا الآن تظهر بانوراما المدينة بشكل رائع ومؤثّر».

وفي طريق العودة الى شقته كان بورخيس المولع بالتذكر يصف لمانغويل المدينة كما كانت عندما يستطيع الرؤية، ويروي حكايات عن قطاع الطرق الممسكين بقبضان الحديد في الزوايا الخطرة من الشارع، دون أن يدرك أن الموقع الذي يصفه قد حلّ مكانه، في الوقت الراهن، البرج الزجاجي لفندق الشيراتون، والمخزن المصمم بأحدث الطرز الهندسية!

بقول ما نغويل إنه عندما ذكر لبورخيس أن هناك بئراً، الآن، تتوسط ميدان «سان تيلمو» السياحي، في القسم الاستعماري القديم من المدينة، لم يصدقه، وقال مستنكراً: لا يمكن وضع بئر في ميدان عام... الآبار تحفر في الأفنية الخاصة داخل البيوت.

عندئذ تخيل مانغويل فيلماً وثائقياً: «اقترحه كما يقول على ريك يانغ الذي كان في ذلك الحين ينتج أفلاما في كندا»... ويتمثل هذا الفيلم في تصوير معالم الحاضر، في بوينس آيرس مرفقة بصوت بورخيس وهو يصف معالم المدينة نفسها في الماضي، حين كان يتجوّل في الشوارع قبل عقدين من الزمن.

لكن مانغويل أبدى أسفه لأن أيّ محطة تلفزيون كندية لن يمكنها رؤية الميزة التي تحملها مثل هذه الرحلة.

بالنسبة لي شخصياً أستطيع أن أتفهم دهشة «مانغويل» واستثارته، حين كان يرى المدينة بعينيه، ويسمع بأذنيه، في الوقت نفسه، وصفاً آخر لها مغايراً تماما لما يراه.

لكنني أستطيع أن أتفهم جداً مرارة واستنكار «بورخيس» المستثار من حدّة وقسوة التغيّر الذي صنعته «الرؤية» بمدينته المصونة خلف أسوار عماه.

أوّل مرّة شاهدت فيها «البصرة» بعد مغادرتها منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، كانت من خلال لقطات سريعة لمراسلي التلفزيون، وهم يتجوّلون فيها بأعقاب الاجتياح الأميركي الذي أسقط نظام صدّام، وكنت في تلك الأثناء أتبع الكاميرا بغيظ ولهفة وأكاد أستوقفها لكي أقبض على موضع من مدينتي الجميلة التي أعرف جميع دروبها كما أعرف خطوط كفّي.

لكنّي عبثاً حاولت الوصول إليها، فعدت على أعقابي مسربلاً بحزن وحيرة التائه الغريب في مدينة لا يعرفها قط!

وتبع ذلك استنجادي بمن هناك، عن طريق الهاتف، لعلّ في وصفهم لمرابع الصبا ما يؤكّد هوية مدينتي المرسومة في قلبي بكامل جمالها وأناقتها، وبأدق تفاصيلها، والمغتسلة في ذاكرتي بوضوح أصْفى من البلّور، غير أن ما سمعته من وصف كان يبدو لي كصفحة من كتاب قديم تراكم فوقها الغبار حتى كاد يطمس السطور.

وفي الآونة الأخيرة كنت ألتقي بعض العائدين من هناك، فكانوا يحدثونني عن أماكن لا أعرفها أبداً، وأسألهم بحرقة عن أماكن تنتصب شابة ملء قلبي، فينكرون وجودها... وفي أفضل الأحوال يعتقدون أنها ربما شاخت واندثرت.

يا إلهي!!

أثمة فرق بين المنفى والعمى؟!

ويا إلهى...

أليس في قلب العدالة المعصوبة العينين من حرقة قلبي ما يجعلها تفك العصابة عن عينيها، وتهوي بميزانها على رؤوس عميان القلوب والضمائر من المحامين «الخارجين على القانون» أولئك الذين تطوّعوا للدفاع عن طاغية أعمى أطفأ بظلمه بصر البلاد وأهلها؟!