حديقة الإنسان: ضوء يذهب للنوم!

نشر في 06-06-2008
آخر تحديث 06-06-2008 | 00:00
 أحمد مطر في مجموعتها القصية البديعة «ضوء يذهب للنوم» تمنحنا الكاتبة الإماراتية «ابتسام المعلا» هديتين: أولاهما متعة قراءة قصص حديثة مكتملة الشروط، وثانيتهما فرحة اللقاء بموهبة فذة قادرة على اجتراح تقنيات جديدة، أو غير معتادة، في ميدان هذا الفن الصعب، هذه المجموعة التي ظهرت حديثاً ضمن سلسلة «كتابات من الإمارات» التي تصدرها هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، هي الأولى للكاتبة، على أننا بعد قراءتها لا نملك إلا أن ننصرف طائعين عن وهم الربط بين تاريخ النشر وتاريخ التجربة. إذ إن قصص المجموعة بأكملها تعلن نضجا فنيا واضحا، وهو ما ينبئنا بأن وراءها زمنا مديدا من العمل الدؤوب المتطلب أقصى درجات الاكتمال، والحريص على التريث من أجل قطف الثمرة في أوانها، مهما طال الزمن أو أتعب الصبر.

احتوت المجموعة على اثنتي عشرة قصة، وزعتها الكاتبة على حقلين متجاورين.. أولهما «أماكن ضيقة»، وثانيهما «مكان بالغ الاتساع». ونحن بعد قراءتنا القصص سنجد أن هذا التقسيم لم يأت اعتباطا، بل هو نتيجة تخطيط واع مستند إلى براعة الكاتبة وفهمها التام لطبيعة فنها.

إن قصص المجموعة كلها، على الرغم من محلية عوالمها أو استغراقها في الحنين إلى الماضي، هي خلاصات إنسانية عامة مشدودة بقوة إلى عصرنا الراهن. وهي في بنائها تشف عن عمق وسعة ثقافة الكاتبة التي تغمس أدواتها في خليط من الألوان الفنية، لتكتب «قصة قصيرة» مفعمة برائحة الشعر، ولمسة التشكيل، وسحر التقطيع السينمائي، وعذوبة الموسيقى، ولتواقفنا، من خلال ذلك كله، على شرفة عالية نطل منها على موكب متغاير الألوان والوجوه والأصوات، لكنه متآلف في نشيد إنساني شامل، نسمع فيه صدى أعماقنا.

وكل هذا منعقد على تكثيف شديد وواسع الثراء في آن معا، حيث لكل كلمة مكانها اللازم، ولكل شخص أو شيء وظيفته المحددة.

ولكي ندرك وعي الكاتبة بالمنهج الصعب الذي سلكته، نلتقط هنا مقولة جاءت في تضاعيف إحدى قصصها وقائلها هو الكاتب الروسي العظيم «أنطون تشيخوف»: «إذا أعلمنا الكاتب، في بداية قصته أن هناك بندقية معلقة في الغرفة، فإن على القصة ألا تنتهي دون استخدام هذه البندقية»!

ووفق هذا المطلب لا يبدو في قصص «ابتسام المعلا» أي مكان للزوائد، لكن الزوائد المحتملة لابد لها أن تتدفق في ذهن القارئ وحده، حين تسلمه روعة القص إلى تداعيات لا حد لها.

وإذا كانت المجموعة كلها أهلا لأن تكون نجمة احتفال بالنسبة للقارئ الجاد، فإن قسمها الأول حقيق بأن يحظى باحتفال مضاف بحدة موهبة الكاتبة، لا على صعيد كفاءة القص فقط لكن على صعيد مفاجأتنا أيضا بتقنية باهرة جعلت من نصوص هذا القسم قصصا قصيرة مكتفية بذاتها على انفراد، ثم هيأتها باجتماعها، لأن تكون فصولا لرواية صغيرة، الأمر الذي حقق، بالنتيجة، ثراء لكل قصة على حدة!

في القصة الأولى «خفيفة مثل بالون» نقف حيال امرأة عجوز تعيش وحدة قاتلة بعد وفاة زوجها وزواج ابنها واستقلاله عنها، وهي تذهب مرة إلى المطار كمرافقة لإحدى صديقاتها، فتكتشف هناك عزاءها المفقود، حيث يلتقي الحزن والفرح في مهرجان عالم المغادرين والقادمين، فتحرص على زيارة المطار كل أسبوع، لتدفن وحدتها في ذلك العالم، على رغم ضيقها وحرجها من نظرات رجل أمن شاب هناك، كان يراقبها دائما بفضول وشفقة. وهي إذ ترى طفلة هناك، تتذكر، لشدة الشبه، صورة طفلة لقيطة من ماضيها اسمها «مريم» سبق لها أن أهدت العجوز رسما طفوليا من إبداعها يمثل أسرة واقفة إلى جوار شجرة ضخمة، فيما تبدو وراءها شمس كبيرة تمتد خيوط أشعتها حتى نهايات أطراف الورقة.

تلك العجوز التي لا نعرف اسمها ولا أوصافها، تموت في النهاية بحادث سير عند زيارتها الأخيرة للمطار.

في القصة التالية «خيط طويل ونحيل» يبدو لنا رجل يحيا علاقة متوترة مع زوجته، بسبب انشغال كليهما بالعمل، وشعور، كل منهما بالعزلة والوحشة، برغم مظاهر الترابط الأسري.

ما يربط هذه القصة بسابقتها هو أن ذلك الرجل كان شاهدا حزينا على مصرع المرأة العجوز، فهو في الحقيقة، ليس سوى رجل الأمن الفضولي الذي كان يراقبها دائما خلال مكوثها في صالة المطار.

في قصة «ضوء يذهب للنوم» هناك فتاة تعيش صراعا نفسيا هائلا بسبب انحدارها الحثيث إلى هاوية العمى. وهي في صراعها هذا تحظى برفقة صديقة حميمة تقف أمام سبيل محنتها كمصدر وعزاء، لكنها تذكرها، في الوقت ذاته، بقسوة تلك المحنة.

نعرف أن اسم تلك الصديقة هو «مريم»، ونحيط بمعلومات كثيرة عن شخصيتها كفتاة ناضجة، غير أننا، بعد قراءة «صور خارج الإطار» سنتأكد من أن «مريم» القصة الثالثة هي الطفلة اللقيطة نفسها التي تحدرت مع تداعيات ذاكرة العجوز في القصة الأولى، ثم إننا سنعرف عن طريقها اسم العجوز وأوصافها، وفوق ذلك سنعرف شيئا عن شخصية زوج العجوز الذي تركها لوحدتها بعد وفاته.

أما قصة «أماكن ضيقة» فهي معقودة على أزمة تواصل بين محررة في إحدى الصحف ورئيس القسم الجديد في الصحيفة، وعندما نعلم أن تلك المحررة هي نفسها زوجة رجل الأمن في القصة الثانية، سندرك هول وحدتها المزدوجة ما بين المنزل والعمل.

القصة الأخيرة في هذا القسم عنوانها «بيت»، وميزتها هي أن الشخصية الوحيدة فيها هي البيت نفسه «وهو بيت العجوز الراحلة»، فهو بصمته المطبق يكشف عن تفاصيله الصغيرة والحميمة، بعد ساعات من مصرع صاحبته، فيجمع، في تضاعيف ذلك، طبيعة حياتها الموحشة، وذكرى الرسم الذي قدمته إليها «مريم» في القصة الأولى، ولا يقطع سكون «الطبيعة الصامتة» في هذه القصة سوى رنين الهاتف الذي لا يرد عليه أحد، وصياح أطفال الجيران اللاعبين بالكرة خارج البيت، وصدى قرعهم الباب، بلا جدوى، لاسترداد كرتهم التي سقطت في حوش البيت. وتكشف لنا أسماء الأطفال حين يتنادون، عن أنهم أبناء أسر آسيوية وافدة، مما يعكس، بلمسة سريعة وهادئة، عمق التحولات التي مر بها المجتمع، ويومئ ضمنا إلى أن وحدة العجوز كانت مركبة، بعد أن انحسرت وجوه المواطنين من حولها، لتحل مكانها وجوه الغرباء.

في قصص القسم الثاني لا تختلف السمة الجامعة لقصص المجموعة، فهي هنا، على الرغم من عدم ترابطها عضويا، وعلى الرغم من اختلاف أنماط بنائها الذي يشي باختلاف أزمنة وظروف كتابتها، تظل حاملة في نسيجها المعاصر، ألوانا من خيوط الماضي القريب أو البعيد، كما تظل صارخة بانسحاق شخصياتها تحت وطأة الوحدة والفقد والاغتراب.

ولعل في قصة «ipod» مؤشرا نموذجيا على هاتين الصفتين المتلازمتين اللتين تعكسان هوية المجموعة كلها، فالعنوان نفسه هو إشارة إلى معاصرة طازجة جدا، حيث ما كان له، قبل أعوام قليلة، أن يكون عنوانا لقصة أو محركا فعالا لطاقة السرد، وذلك لأن «ipod» هذا هو من آخر مبتكرات التكنولوجيا، وهو على الرغم من صغر حجمه، قادر على احتواء المئات من أغنيات الزمن الجميل التي يحتمي البطل بها من وحشة متغيرات الحاضر من حوله. أي أن البطل هنا يستخدم جهاز الحاضر والمستقبل لإسكان وتسكين حنينه إلى الماضي: أحدث وطن لأقدم مواطن... يا للمفارقة!

وعلى المنوال ذاته تجري القصص الأخرى، ففي «قلعة الرمل» نشهد لقاء فتاة مغدورة بالصديقة القديمة التي خطفت منها حبيبها الأول وتزوجته، وبصحبتها طفل ذلك الحبيب الذي كان يبغي أن يكون طفلها هي لا طفل صديقتها وهي، أمام براءة هذا الطفل وعذوبته، تحاول، باستماتة، أن تلوذ من عذابها بتكلف الغفران. وفي «لون الماء» نطل على صورة كاتب يحاول الهرب من وحشة وحدته وشيخوخته باختلاق أشخاص على الورق، يضع على ألسنتهم مدائح لنفسه ولتاريخه. وفي «سيرة البنت التي...» نشاهد سبع لقطات سريعة تؤرخ لحياة امرأة، منذ أن كانت تزرع الأقلام في طفولتها، منتظرة أن تنمو وتورق، إلى حين شيخوختها المحاطة بحصاد حياتها من الأحفاد. أما في «حداداً على أديسون» فهناك انتباهة لما تستوفيه رفاهية العصر من ثمن باهظ يتمثل في تقطيع أواصر العلاقات الأسرية والاجتماعية، حيث ترصد الكاتبة، بعين ذكية لاقطة، زخم الساعات القليلة التي ينقطع فيها التيار الكهربائي عن أحد الأحياء، إذ تتصل، حال انقطاعه، وبفضل الظلام وحده، خيوط التقاء جميع أفراد الأسر والجيران، في مهرجان حافل لم يسبق لهم أن شهدوه في عالم الأنوار الساطعة!

ثم تأتي القصة الأخيرة «ماذا ستفعلين بي؟» لتصور علاقة عاطفية مكتوبة وغامضة ومحفوفة بالتوتر والاضطراب، بين طالبة جامعية وأستاذها، ويومئ من بعيد، من خلال السطر الأخير، إلى احتمال المكاشفة وتطمين التوتر، بعد اتصال هاتفي مفترض بينهما.

ونحن، في خاتمة الأمر، سنلاحظ أن الأماكن في قصص المجموعة تبدو طبيعية وعادية، بل إنها قد تبدو على شيء من الاتساع في الطائفة الأولى، في حين تبدو ضيقة أحيانا في الطائفة الثانية، وعليه فلابد أن يقوم في أذهاننا تساؤل عما حمل الكاتبة على تضييق الأماكن هناك أو على توسيعها هنا.

الجواب، كما أعتقد كامن في أن الضيق والاتساع إنما ينبعان من داخل شخصيات القصص، ولا يتشكلان بالضرورة، في الواقع الميحط بها. أي أن الشخصيات، بعبارة موجزة، هي التي تصنع مصائرها. ولما كانت «الوحدة» هي القدر المشترك بين جميع أبطال المجموعة، فإن الأماكن لابد أن تبدو ضيقة في الطائفة الأولى، لأن أبطالها جميعا يبدون مستسلمين أو لا حيلة لهم أمام انسحاقهم تحت وطأة هذا القدر، في حين نرى أن أبطال الطائفة الثانية يتوسلون سبلا شتى للتخفيف أو الهروب من سطوة غيلان الفقد والوحدة والخيبة.

* شاعر عراقي

تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية

back to top