إلى جانب مسألتي الدين والدولة، ثمة مسألة عربية أساسية ثالثة لا ترتد إليهما، هي المسألة الغربية.

Ad

وللمسألة هذه وجوه أربعة متميزة:

1- وجه استعماري يحيل إلى جملة علاقات السيطرة والاستتباع والاستغلال والضغوط العنيفة والاختراقات الأمنية والدبلوماسية لبلداننا، ولطوابق السلطة العليا فيها بخاصة. بما فيها أيضا دعم دول (معتدلة...) ضد دول أخرى (متطرفة...) أو ضد أي تهديدات داخلية قد تتعرض لها. وبما فيها كذلك، أو ربما في أساسها همينة على مجمل السلسلة البترولية من التنقيب والاستخراج إلى النقل والتسويق، فضلا بالطبع عن التكنولوجيا البترولية.

2- وجه إسرائيلي يحيل إلى كفالة أمنية وسياسية وقانونية وأخلاقية واقتصادية لإسرائيل، لا يستنفد في أي بعد وظيفي كالفصل بين «جناحي الوطن العربي» أو ضرب أي قوى عربية مستقلة ناهضة، إنما يتخطاه إلى علاقة مركبة يلتقي فيها الدّيْن بالدِّين، الشعور بالذنب (بسبب الهولوكوست وسوابق اضطهاد وعزل عريقين) وبالإعجاب (بسبب مساهمات فكرية وثقافية وعلمية يهودية فذة في حداثة الغرب...) وقد تحولا إلى دين وأمر مطلق ملزم. هذا «الدين» أصلا ما يسوغ فصل الوجه الإسرائيلي للمسألة الغربية عن وجهها الاستعماري، وهو أيضا ما يحقن العلاقة الغربية الإسرائيلية بعنصر لا عقلاني عميق (فوق عقلاني، إن شئت) تخفق في رؤيته المقاربات الاقتصادية والجيوسياسية، وبعنصر لا ديمقراطي عميق بدوره يصمد أمام تحفظ قطاعات مهمة من الرأي العام في بلدان الغرب على سياسات إسرائيل وجملة أدوارها في المنطقة، وهذا مصدر تناقض عميق في الديمقراطيات الغربية.

3- وجه ثالث لا يقل أهمية هو ما قد نسميه العدوان الثقافي الغربي على العرب. أعني جملة ظواهر تشويه السمعة والتحقير والربط بين العرب وقيم سلبية كالإرهاب والتعصب الديني والتخلف والجشع واللاعقلانية والعنف والحسية، والإدانة الجوهرية للإسلام وتسفيهه... لهذه الممارسات تاريخ عريق، لكنها غدت وجها أساسيا من وجه مشكلتنا الغربية في العقدين الأخيرين التاليين لانتهاء الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتي. وهي تتوحد في دلالتها على رفض الاعتراف بالعرب كمساوين وأنداد، رفض يتواتر في أيامنا أن يعمم على الماضي فينكر أي دور إيجابي للعرب في التاريخ. والمفعول المجمل لهذا العدوان يعادل نزع إنسانية العرب أو أبلستهم وتشريرهم. هذا الوجه ليس ثانوياً ولا شكلياً. إنه يرفع الحصانة المعنوية والرمزية عن العرب ويسهل أمر الاعتداء عليهم، ويرفع بشدة عتبة التعاطف معهم، ويغري بهم أي متحامل، ويضعهم في وقع الشرير العالمي.

4- ويتمثل الوجه الرابع في النموذج الثقافي الغربي، أعني مركب مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والتكنولوجية، منظوراً إليه كنظام متسق ذي وجوه سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية، أي كحضارة. هذا النموذج جاذب فعال وجاذب جدا، لكنه في آن غير قابل للتعميم حتى لو أردنا (لأسباب مادية وبيئية قبل كل شيء)، ومحاكاته تضلل وتشوش إن لم نميز بين ما فيه من عام وخاص، كوني وغربي. دولة بشرية واجتماعية ودنيوية، نعم؛ لكن كيف؟ الفصل بين الدين والدولة، نعم؛ لكن أي صيغ مناسبة وممكنة لها؟ الأمر بكل بساطة أننا لسنا شركاء في الحداثة لمجرد أننا معاصرون لها. كي نمسي شركاء فعليين علينا أن نسائلها ونقبض على ناصيتها بأدواتنا ولمصلحتنا. أما الامتثال للنموذج الثقافي الغربي بحذافيره فهو ما يبعدنا عن تمثل العام والإنساني فيه.

على أنه يتعين الفصل بين مساءلة النموذج الثقافي الغربي ودعاوى الأصالة والخصوصية التي لا تشكل غير رد خاص على نموذج يمتزج فيه العام والكوني مع الخاص والغربي، فتبرز الاختلاف وتهمل التخلف، وتركز على «الآخرية» وتغفل التأخر... لكن ينبغي القول إن هيمنة النموذج الغربي هي أحد وجوه المسألة الغربية من وجهة نظر تاريخية فحسب، أما من وجهة نظر عملية فإن عبء الرد على هذا الوجه من وجوه المسألة الغربية يقع علينا، ويقتضي تحرر طاقاتنا النقدية والإبداعية.

بالمثل يتعين الفصل بين الاعتراض الواجب على تشرير العرب وتحقير الإسلام وبين النزوع إلى تمجيد كل ما يخصنا والرفع من شأنه وتخوين المواقف النقدية والمنشقة... كل ما من شأنه أن يسوغ بالكامل أوضاعنا القائمة التي ينبغي الإقرار أنها غير مقبولة، وأنه لا معنى لطرح المسألة الغربية إلا في سياق تطلع جاد إلى تغيير هذه الأوضاع. وأخيرا فإنه يضفي تسويغا كاملا أيضا على تشرير الغرب لنا جنوحنا إلى تشريره وتحقير ثقافته...

إن الاحتجاج على العدوان الثقافي والإعلامي الغربي يكتسب كامل شرعيته من الارتباط بقيم المساواة بين البشر وجدارتهم المتكافئة بالاحترام والاعتراف.

يبقى القول إن الكلام على مسألة غربية يمكن أن يكون مؤشرا تاريخيا على قدرتنا على «موضعة» الغرب، جعله موضع تساؤل وبحث، وعلى تكوننا كذات تاريخية فاعلة. ألا يبدو هذا مبالغاً فيه؟ أليس الأصوب أن نتكلم على مشكلة غربية (على نحو ما سبق أن تكلمنا في هذا المنبر ذاته)، جملة تحديات يطرحها علينا الغرب الحديث، دون أن نتمكن من تطوير استجابات ثقافية وسياسية مناسبة للرد عليها؟ وكيف يمكن أن يكون النموذج الثقافي الغربي أحد وجوه مسألة غربية مزعومة، بينما نحن إما نتوسله لفهم أنفسنا بالذات، فضلا عن فهم الغرب ذاته، وإما نواجهه بعتاد فكري وقيمي ورمزي متقادم، لا يلبي الحاجة إلى رد تاريخي جدي؟ وإن كان الغرب لا يكف عن موضعتنا وتشريحنا، فكيف لنا أن نتكلم على مسألة غربية، كما لو كنا ذاتا تاريخية سائلة وفاعلة؟ ألا يغذي الكلام على مسألة غربية افتراضا باطلا بأن هناك إجابات وحلولا جاهزة أو سهلة التجهيز من لدنّا لهذه المسألة؟ ولعله أيضا يرفد الحركات القومية والدينية المنغلقة بما يسوغ استجاباتها الانكفائية على التحدي الغربي (على شاكلة أن «الإسلام هو الحل»)، وذلك بجعل الكبرياء الثقافي منهجا للعلم؟

نسلم بوجاهة هذه الأسئلة وبصعوبتها النظرية والعملية، لكننا لا نسلم بحال بأن توظيفا غير مقبول لفكرة ما يجعل الفكرة ذاتها غير مقبولة، وهذا يلحق الثقافة بمقتضيات التعبئة والنجوع العملي، فيفسدها. والواقع أننا لا نقبل مقاربة قضايا الفكر من وجهة نظر توظيفية أصلا، وأكثر من ذلك نرى أن تجاوز التوظيفية أو النفعية في المعرفة والثقافة قد يكون سمة لتكون ذات تاريخية واثقة من نفسها، تترقى سيطرتها على عالمها بقدر ما تتحرر من أوهام النفع والتوظيف الصغيرة، ومن التحرر هذا التفكيرُ في نطاق زمني يقاس بالأجيال لا بالسنوات والعقود.

لعل من المناسب، إذن، أن نتكلم عن إرادة مساءلة الغرب و«استشكاله»، بدل القدرة على «موضعته».

* كاتب سوري