إذا كان كل احتفاء بالجمال احتجاجاً على القبح، فإن كل الموسيقيين، على اختلاف الأجناس، ومراحل التاريخ، تواقون إلى رؤية حياة خالية من الكراهية، والحرب أبشع أوجه هذه الكراهية.
بشأن حرب العراق، وحرب فلسطين، وحرب لبنان تطلّ علي بين حين وحين أعمالٌ موسيقية بحاسّة ندب عالية. بشارة الخوري، حفيد الأخطل الصغير (فرنسي الجنسية) قدم أكثر من عمل أوركسترالي فيه الكثير من الحنو، لا الاحتجاج. إنه ابن لبنان، وأوركسترالي الطبع، ولذلك لم يقرب التأليف الكورالي والغنائي، الأمر الذي ألفْتُه في معظم الأعمال الموسيقية الفجائعية. طبعاً، هناك سيل لا ينقطع من الاستجابات في حقل موسيقى البوب، وهو حقل لا دراية لي فيه. عَرَضاً مرّت عليّ خمسةُ إصدارات ملفتة للنظر، لأنها من تأليف جنود مشاركين في حرب العراق. أحدها يقول: «علّق الحجّي(الحاج) من أعالي السقوف / علّقه من ذرى السماء / ومن طائرةٍ علق الحجي العجوز / ودعه يحلّق... » مرارةٌ وسخرية سوداء. قبل عام بالتمام قدّم الموسيقي البريطاني مِتشيل نيمَن عملاً موسيقياً كورالياً رائعاً (كُلّف به من قبل فرقة البي بي سي الأوركسترالية) على قاعة الباربيكان. العمل بعنوان «مصافحةٌ في الظلام» يمتد لقرابة نصف الساعة، كانت نية نيمن استيحاء مادة عن الحرب العالمية الأولى، ولكن قراءته للعدد الخاص عن الشعر العراقي، الذي أصدرته مجلة «الشعر الحديث المترجم» الأميركية، جعلته يعدلُ عن رأيه، فحرب الخليج الأولى أوْلى بالاستيحاء، و قصائد الشاعر العراقي جمال جمعة «رسائل إلى أخي» ملائمة تماماً. كنتُ أول العارفين بإنجاز نيمن، لأن دار النشر الموسيقي اتصلت بي تسألني إذا ما كنت أعرف جمال جمعة، فأعطيتهم تلفونه وموقعه الإلكتروني، وكتبت إلى جمعة أهنئه بالخبر. عملُ نيمن محتدم، ولكن بسياق الموروث الكلاسيكي الغربي غير التجريبي، في موسيقى الآلات وفي أصوات المنشدين على السواء. وبينهما يصلُ النص الشعري خافتاً، هامساً. لعل عمل نيمن أجمل إنجاز في وجه الحرب العراقية. قبل أيام وقع في يدي إصدارٌ جديد عن دار (Delphian) للموسيقي البريطاني أدورد هاربر (Harper). ينطوي الإصدار على أعمال جديدة للمؤلف، تتصدرها السيمفونية الثانية (2007). وهي عمل مستوحى من مقتل صبي فلسطيني برصاصة جندي اسرائيلي، حدث تراجيدي لم ينقطع عن أنظار المتابع الغربي. العمل في حركاتٍ ثلاث، مع حركتي افتتاحية وخاتمة. وهو، شأن عمل نيمن، يعتمد النص الشعري في الحركات الثلاث والخاتمة، الأول لشاعر من القرن التاسع عشر يُدعى وليم بارنيس، تفتتحُ فيه آلة الفيولين الآلات الوترية بلحن فلكلوري، حول موت عرضي، الثاني نص لشاعر معاصر اسمه رون باتلِن، عن مقتل الصبي الفلسطيني، وقبله الصبي اليهودي، وكيف تبرعت عائلاتهما بأعضائهما إلى مرضى من الطرفين، دعوة إلى السلام تقارب دعوة أدوارد سعيد والموسيقي بارينبويم في تأسيس الأوركسترا الشرقية-الغربية. في هذه الحركة يهدأ التفجّع باتجاه إضاءةٍ آملة. الشاعر ولت ويتمان يملأ بقصيدته «معجزات» الحركة الكورالية الرابعة، التي أنجزت الوعد الآمل بخفة راقصة: بالنسبةِ لي كلُّ ساعة من الضوء والعتمةِ معجزةٌ، كلُّ إنشٍ مكعّبٍ معجزةٌ، كل يارد مربع من الأرض... بالنسبة لي يبدو البحر معجزةً، الأسماء العائمةُ، الحجارةُ، حركةُ الأمواج، السفنُ برجالها، أيّ معجزات غريبة كلّ هذا... بهذا الاندفاع الويتماني يندفع هاربر، ويسمي إصداره الجديد باسم «معجزات». تسبق السيمفونية الثانية هذه خمس قطع موسيقية من حقل «موسيقى الغرفة»، تنفردُ فيها آلة التشلو، أو تشترك مع آلات رباعية وترية. وكأنها جميعاً مقدمات تشحن المناخ لمجيء العمل السيمفوني، هاربر رائع في انتسابه الأصيل إلى الموروث الموسيقي الغربي. ورائع في احتفاء الضمير اليقظ بالمصير الإنساني.
توابل - ثقافات
في الاحتجاج الموسيقي
12-06-2008